معابد الكرنك تكشف للسياح أسرار الحضارة الفرعونية
معابد الكرنك في الأقصر تحفة فرعونية عمرها آلاف السنين، تضم أكبر دار عبادة في العالم القديم، وقاعة أعمدة شاهقة، ومسلات ضخمة وتشهد سنويًا تعامد الشمس وظواهر فلكية نادرة، وتحتوي على بحيرة مقدسة غامضة، وتستقطب آلاف السياح من مختلف الجنسيات.
القاهرة - في قلب مدينة الأقصر، وعلى ضفاف نهر النيل، تتجلى معابد الكرنك كواحدة من أعظم الشواهد المعمارية التي خلفها المصريون القدماء، حيث يتوافد إليها السياح من مختلف أنحاء العالم، خاصة في هذا الوقت من العام، لمشاهدة ظاهرة فلكية نادرة تُعيد الحياة إلى صروح عمرها أكثر من أربعة آلاف عام.
ففي 21 ديسمبر من كل عام، تتعامد الشمس على المعبد الرئيسي داخل مجمع الكرنك، فتخترق الحزم الضوئية فتحات الأسقف، وتضيء التماثيل وصالات الأعمدة وموائد القرابين، في مشهد مهيب يعكس دقة التصميم الهندسي وبراعة النحت التي تميز بها المصريون القدماء. وهذه الظاهرة، إلى جانب البحيرة المقدسة التي لا تزال تحتفظ بمياهها منذ آلاف السنين دون اتصال بمصدر مائي، تضفي على المكان هالة من الغموض والجمال، وتجعله يُعرف بـ”أيقونة الجمال“.
كبير الأثريين مجدي شاكر، الذي قضى أكثر من 23 عامًا بين آثار الأقصر، يصف الكرنك بأنه “أكبر دار عبادة في العالم القديم،” مشيرًا إلى أن الاسم الأدق هو “معابد الكرنك” نظرًا إلى تعدد المعابد داخله. ويضيف أن هذه المعابد عاشت عبر عصور مختلفة، وازدهرت في الدولة الحديثة، حين كانت الأقصر عاصمة دينية حكمت العالم لألفي عام.
ولم يفقد الكرنك أهميته في عصري الرومان واليونان، إذ اكتُشف مؤخرًا عند بوابة رمسيس الثاني أثر يعود إلى العصر الروماني، يصوّر إمبراطورًا يرتدي زيًا فرعونيًا ويقدّم القرابين، ما يدل على استمرار رمزية المكان عبر العصور.
ويتابع شاكر "في الكرنك ستجد نحوتًا غاية في الجمال، وصروحًا ومعابد صغيرة، وأكبر صالة أعمدة في العالم.” ويستشهد بكلمة العالم الفرنسي شامبليون، مكتشف رموز حجر رشيد، الذي قال عند زيارته إلى المعبد “كم نحن أقزام أمام هذه الحضارة،” في إشارة إلى عظمة الفن المعماري المصري مقارنة بالحضارة الأوروبية آنذاك.
واختيار موقع الكرنك لم يكن عشوائيًا، بل عبقريًا، إذ يقع شرق النيل حيث المعابد الدينية، وتقابله غربًا المعابد الجنائزية ووادي الملوك والملكات، في توزيع يعكس فلسفة المصريين القدماء في الحياة والموت. ويضم المجمع عشرة صروح ضخمة منقوشة عليها معارك الملوك وبعض تفاصيل حياتهم، إضافة إلى طريق تصطف فيه أكثر من 300 تمثال بجسم أسد ورأس كبش، رمزًا للقوة والحماية في المعتقدات الفرعونية.
وبحسب الهيئة العامة للاستعلامات المصرية، بدأ بناء الكرنك في الدولة الوسطى عام 2000 ق.م، واستمر حتى نهاية العصر الفرعوني في 332 ق.م، حيث كان كل ملك يضيف إليه تقربًا للآلهة وسعيًا للخلود. وتبلغ مساحة المجمع 247 فدانًا، منها 46 فدانًا لمعبد آمون، وتُقدَّم داخله عروض بالصوت والضوء بلغات متعددة، تروي قصة المعبد وتاريخ الأسر الحاكمة.
ومرّ تشييد الكرنك بمراحل متعددة، شملت الدولة الوسطى (الأسر 11- 14)، وعصر الانتقال الثاني (الأسر 13 – 17)، والدولة الحديثة (الأسر 18 – 20)، ثم العصر المتأخر (الأسر 21 – 30). وتظهر براعة المصريين القدماء في البناء والنحت، حيث تتزين الجدران بنقوش دقيقة، وتماثيل ضخمة، وأعمدة شاهقة.
ومن أبرز معالم الكرنك قاعة الأعمدة الكبرى، التي تضم 134 عمودًا، يصل ارتفاع بعضها إلى 15 مترًا، بينما يبلغ ارتفاع الأعمدة المركزية 21 مترًا. بدأ بناؤها في عهد أمنحتب الثالث، واستُكملت زخارفها في عهد سيتي الأول ورمسيس الثاني. وبالقرب منها، تقف مسلتان ضخمتان، أبرزها تلك التي شيدتها الملكة حتشبسوت، بارتفاع 30 مترًا ووزن يزيد عن 300 طن، وهي من أضخم المسلات التي لا تزال قائمة حتى اليوم.
ولا تقتصر زيارة الكرنك على مشاهدة الآثار فحسب، بل تشمل أيضًا تجربة ثقافية وسياحية متكاملة، حيث تُنظم وزارة السياحة عروضًا ليلية بالصوت والضوء، تروي قصة المعبد بلغات متعددة، وتمنح الزائر فرصة للتفاعل مع التاريخ في أجواء ساحرة. كما تحيط بالمجمع محال للحرف اليدوية، ومراكز للشرح الأثري، ما يجعل الزيارة تجربة تعليمية وترفيهية في آنٍ واحد.
ولا تزال معابد الكرنك، بعد آلاف السنين، شامخة تطل على النيل، حافظة لأسرارها، وجاذبة لزوارها من مختلف أنحاء العالم. فهي ليست مجرد أطلال أثرية، بل سجل حيّ لحضارة لا تزال تبهر العالم، وتؤكد أن المصريين القدماء لم يبنوا مجرد معابد بل شيدوا ذاكرة خالدة للحكمة والجمال والخلود.





