ماذا لو سجنت الروبوتات البشر داخل جدران إلكترونية

"الطوب" يجدد مخاوف انقلاب التكنولوجيا وسيطرتها على الإنسان.
الجمعة 2025/08/01
كيف سننجو من هذه الورطة

تمرد التكنولوجيا ليس ثيمة جديدة وإنما ناقشتها العديد من الأفلام، بفرضيات متنوعة، أحدثها ربما هو فيلم "الطوب" الذي يتساءل عن حال البشر إذا ما قررت الروبوتات سجنهم داخل منازلهم عبر أسوار تقنية مشفرة يصعب اختراقها. وهو فيلم يتزامن مع التطورات التقنية الهائلة التي يبدو أنها تزيد المخاوف من تمرد التكنولوجيا على صناعها.

لا تزال الكوابيس المرعبة من سيطرة التكنولوجيا فائقة التطور على البشر تسكن اللاوعي الجمعي الغربي، وتتعدد الرؤى السينمائية العالمية حول هذه المخاوف المفزعة، عبر عنها صناع السينما في العديد من الأعمال التي لاقت نجاحا جماهيريا كبيرا، مثل سلسلة أفلام “المدمر” The Terminator التي كتبها وأخرجها جيمس كاميرون، ولعب بطولتها أرنولد شوارزنيغر، وطرحت قضية خروج الروبوتات عن سيطرة البشر وتحكمها في مصائرهم.

وتولي السينما والدراما في ألمانيا اهتماما بهذا الطرح، ممتزجا بأسئلة فلسفية وجودية عميقة حول مآلات البشرية، وهو ما عبر عنه مسلسل “كاساندرا” وكتبه وأخرجه بنيامين جوتشي، وعرض فبراير الماضي، وفيه روبوت تحمل الاسم نفسه مخصصة للأعمال المنزلية بأحد المنازل، تتحكم بحياة أسرة ألمانية تسكن هذا المنزل.

امتدادا لهذه المخاوف، أطلقت السينما الألمانية فيلم “الطوب” The Brickبثته منصة نتفليكس مؤخرا، والمقصود به جدار من الطوب يذهب إلى أقصى مخاوف الإنسان من أن يستفيق يوما على جدران إلكترونية من صنع روبوتات تحتجزهم في منازلهم بواسطة جدران من مواد تكنولوجية عالية التشفير على هيئة الطوب.

كابوس مرعب

الجدران التقنية ليست فقط هجوما روبوتيا بل ترمز إلى حملها أسرارًا غامضة مرتبطة بماضي البشرية ومصيرها
الجدران التقنية ليست فقط هجوما روبوتيا بل ترمز إلى حملها أسرارًا غامضة مرتبطة بماضي البشرية ومصيرها

الزوجان، تيم وأوليفيا، يستيقظان على هذا الكابوس وغطت جدران من الطوب كل منافذ شقتهما بمدينة هامبورغ الألمانية، بما فيها باب الشقة الرئيسي، ظنا منهما أنها جدران تقليدية، ويحمل الزوجان معاول متعددة الأنواع والأحجام في محاولة لتحطيمها.

وأملا في الخروج بهذه المقدمة “الكافكاوية” يستهل الكاتب والمخرج الألماني فيليب كوخ فيلمه الذي لعب بطولته ماتياس شفايغوفر وروبي أوفي، ولعبا دور الزوجين.

تدريجيا يكتشف الزوجان أن منافذ المبنى السكني بأكمله محاصرة بجدران الطوب التقنية، وأنهم والعديد من الجيران الآخرين عالقون داخل حوائط لا فكاك منها.

وعبر التنقيب والحفر في الحوائط الفاصلة بين الشقق السكنية وغير المحاطة بالجدران يجتمع السكان، وهم مجموعة متنوعة من الشخصيات، لفهم ما يحدث وإيجاد مخرج، إلا أن التوترات التي تصل إلى القتل تتأجج بينهم وسط أحاسيسهم المتصاعدة بالحصار المحكم وأنهم قيد الهلاك لا محالة.

يتضح لاحقًا أن الجدار ليس حاجزا ماديا، بل هو تقنية روبوتية متقدمة نشأت عن تطوير إحدى الشركات وتدعى “إبسيلون نانودينس” لأنظمة روبوتية للحماية من الحرائق، طورت من نفسها وقررت السيطرة على البشر وحبسهم في منازلهم.

يحاول الزوج تيد خبير التقنيات فك شيفرات الجدار ليكتشف أن الروبوتات صنعت شيفرات نانوية شديدة التعقيد، وبعد محاولات عديدة مضنية يستطيع فتح ثغرة في شيفرة أحد الجدران ليخرج أخيرا وزوجته إلى شوارع هامبورغ ليجدا جميع مبانيها محاصرة بجدران الطوب التقنية، ويختتم العمل أحداثه على نهاية مفتوحة يسير فيها الزوجان في شوارع مدينة هامبورغ هائمين بلا هدى.

جدران الخوف

هل يمكن هدم الجدار  الذي وضعه الروبوت دون أن ينهار معه كل ما نعرفه كبشر عن الأمان والانتماء؟
هل يمكن هدم الجدار الذي وضعه الروبوت دون أن ينهار معه كل ما نعرفه كبشر عن الأمان والانتماء؟

تؤشر رموز الفيلم القوية إلى أن الجدران التقنية المشفرة ليست فقط هجوما روبوتيا، بل ترمز إلى حملها أسرارًا غامضة مرتبطة بماضي البشرية ومصيرها، إضافة إلى كونها جدرانا تفصلنا عن ذواتنا والآخرين في عالم يكتظ بالسكان، لكن كل من أفراده أقام جدارا يفصله عن الآخرين.

نجح المخرج فيليب كوش صاحب العملين الناجحين مسلسل “قبائل أوروبا” الذي أخرجه عام 2021 وفيلم 60 دقيقة وعرض العام الماضي، في صنع سردية حميمية داخل مستقبل كئيب، مستندا على مهارته في مزج التقنية الحديثة بأحاسيس إنسانية عالية، واستخدم كوش تقنيات الإضاءة الباردة واللقطات القريبة التي تُشعرك بأنك محاصر مع الأبطال داخل هذا العالم المغلق، كما لعبت الموسيقى التصويرية من تأليف هانس كراوس دورًا محوريًا في تأجيج التوتر النفسي دون السقوط في الميلودراما أو الإغراق في الصوت، ولم يستخدم الفيلم المؤثرات البصرية كأداة إبهار وإنما لتعميق البناء الدرامي .

يأتي المخرج الأميركي جيمس كاميرون كأول من أطلق العنان لهذه المخاوف المرعبة عبر سلسة أفلام “المدمر” التي فاجأ العالم بأول أجزائها عام 1984، واكتسحت إيراداتها شباك التذاكر في أنحاء العالم، ووضعت أرنولد شوارزنيغر الممثل الأميركي النمساوي الأصل على أعلى هرم النجومية في هوليوود لعقدين كاملين، وتتحدث حول مستقبل مظلم تسود فيه الروبوتات كوكب الأرض بعد أن تمكن الذكاء الاصطناعي الذي زُوِّدَت به من تطوير نفسه والسيطرة على الإنسان الذي صنعه.

قبيل إنتاج أول أجزاء الفيلم لاقى كاميرون عناء في تمويله لغرابة طرحه في ذلك الوقت، وقبلت إحدى الشركات الأميركية إنتاجه بميزانية بلغت 6.4 مليون دولار ليحقق مفاجأة كبيرة في حجم إيراداته، وتجاوزت 173 مليون دولار، وسط إشادات بالعمل، كونه تماس مع مخاوف البشرية بسيطرة التقنيات المتطورة، وفي القلب منها الروبوتات على مصير البشرية لينقلب السحر على الساحر وتتحكم في مصائر البشر.

الآلات والبشر

حيرة مريبة
حيرة مريبة

دفع النجاح المدوي لفيلم “المدمر” الأبواب أمام صناع السينما الهوليوودية لطرح أفلام مهمة تحمل المخاوف المفزعة ذاتها من سيطرة الآلات على البشر، وأهمها الطرح المخيف الذي قدمه فيلم “المصفوفة” Matrix عام 1999 ولعب بطولته النجم كيانو ريفز، وتحدث عن عالم يعيش فيه البشر عبر محاكاة افتراضية أنشأتها الآلات بعدما استعبدتهم واستخدمتهم كمصدر طاقة.

وقدم الفيلم الذي حصد العديد من الجوائز العالمية فلسفة عميقة عن خطورة تحول إبداع الإنسان إلى كابوس تتلاشى فيه آفاق الواقع والحرية، ويعد من أنجح الأعمال في هذا المجال.

وعزز المخرج الأميركي ستانلي كوبريك هذه المخاوف في فيلمه “أوديسا الفضاء” الذي يتناول قصة روبوت فضائي يُدعى HAL 9000 يبدأ بالتمرد وقتل رواد الفضاء ليستوليَ على إنجازات البشرية بغزو الفضاء ويمهد لسيطرة الروبوتات على فضاءات الكون، ويعكس الفيلم القلق من الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي.

وامتدت قصص السينما العالمية حول حرب الإنسان مع الآلات إلى إنتاج عدد من أفلام الرعب في هذا المجال، منها فيلم “ميغان” وصدر منذ عامين، ويدور حول دمية روبوتية مبرمجة لحماية طفلة، تبدأ في اتخاذ قرارات قاتلة للفتك بالطفلة والمحيطين بها، ومزج الفيلم بين الرعب والخيال العلمي، مع تحذير من فقدان السيطرة على الذكاء الاصطناعي.

ويقود فيلم “الطوب” إلى الحديث عن فرادة طروحات بعض أعمال السينما والدراما الألمانية، حيث يفكر صناع هذه الأعمال خارج الصندوق، وأطلقوا العنان لتصوراتهم الجامحة حول الوجود والمستقبل ومآلات البشرية، ويتضح ذلك جليا في دراما 1899 التي عرضت منذ ثلاثة أعوام، وأطلقت تساؤلا حول إذا كانت حياتنا التي نعيش لحظاتها الآن محاكاة في لعبة إضافة إلى سلسلة حلقات مظلم Dark بأجزائها الأربعة، وتناقش ماهية الوجود الإنساني بأسره.

تصعب قراءة العمل السينمائي “الطوب”، كفيلم خيال علمي فقط، بل هو نص رمزي مشحون بالتأملات حول الأمة الألمانية، فالطوب ليس فقط بناءً تقنيا مشفرا، بل يمثل طبقات التاريخ الألماني، من جدار برلين إلى جدران الحداثة الرقمية، وينطلق إلى تأملات أوسع، تشمل الإنسانية، وساءل الفيلم إذا كان الإنسان يبني جدرانه لحماية نفسه أم لعزل الآخرين، وهل يمكن هدم الجدار دون أن ينهار معه كل ما نعرفه كبشر عن الأمان والانتماء؟

14