ليبيا في قلب معركة الخرائط الخفية

مستقبل الحضور الدولي في ليبيا مرهون ليس فقط بقرارات العواصم الإقليمية، بل بقدرة الفاعلين الليبيين على بناء توافق داخلي
الأحد 2025/07/20
المياه الليبية.. تقاطع مصالح وأجندات إقليمية

تُعيد أزمة ترسيم الحدود البحرية بين ليبيا واليونان طرح الأسئلة حول طبيعة التداخل بين الملفات السيادية الوطنية ومشاريع النفوذ الإقليمي في شرق المتوسط. فاعتراض طرابلس على تصاريح التنقيب اليونانية جنوب كريت، وردّ أثينا عبر زيارات دبلوماسية متزامنة إلى الغرب الليبي وشرقه، لا يُقرأ فقط في سياق العلاقات الثنائية، وإنما ضمن مشهد أكثر اتساعاً، تتحرك فيه أطراف إقليمية ودولية وفق اعتبارات الطاقة والأمن والتموضع الجيوسياسي. في هذا السياق، تغدو ليبيا بما تمثّله من موقع إستراتيجي وسواحل مفتوحة وموارد واعدة؛ نقطة تقاطع تتعدد حولها المقاربات والمصالح.

أعادت زيارة وزير الخارجية اليوناني جورج جيرابتريتيس في الخامس عشر من يوليو إلى طرابلس، وما سبقها من لقاءات في بنغازي، تشكيل المشهد الدبلوماسي المرتبط بملف الحدود البحرية جنوب جزيرة كريت. هذا الحراك جاء بعد إعلان أثينا منح تصاريح للتنقيب في مناطق ترى فيها طرابلس امتداداً لمجالها السيادي البحري، ما فتح الباب أمام تجدد النقاش حول اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين ليبيا وتركيا الموقّع عام 2019، والذي لا يزال موضع جدل قانوني وسياسي على الصعيدين الإقليمي والدولي.

في مقابل التحرك اليوناني، تُظهر تركيا بدورها نشاطاً لافتاً في شرق ليبيا، حيث تسارعت وتيرة اللقاءات الدبلوماسية مع شخصيات نافذة في بنغازي، في إشارة محتملة إلى إعادة تموضع أو توسيع شبكة العلاقات. هذا التوازي في الزيارات واللقاءات يعكس تزايد التنافس بين أنقرة وأثينا في شرق المتوسط، لاسيما في ظل تداخل المصالح البحرية مع مشاريع الطاقة الكبرى وخطوط النقل الإستراتيجية.

لكن التنافس لا يتوقف عند السواحل؛ فقد أظهرت صور أقمار صناعية نشرتها وكالة "نوفا" الإيطالية، وجود طائرات نقل عسكرية في مطار الكفرة، قرب مثلث الحدود الليبية - السودانية - المصرية، وتزامن ذلك مع تقارير تتحدث عن ارتباطات لوجستية محتملة بين بعض القوى العسكرية في الجنوب الليبي والتطورات الميدانية في السودان، ما يسلط الضوء على البعد الإقليمي العابر للحدود الذي بات يطبع الحراك العسكري في جنوب البلاد.

التحركات المتزامنة من قبل أطراف إقليمية فاعلة تعكس أكثر من مجرد تبادل رسائل سياسية، إذ يبدو أن ليبيا باتت تمثل نقطة التقاء بين مشاريع متعددة الأهداف، تتراوح بين تأمين موطئ قدم في شرق المتوسط، والتحكم بممرات الطاقة، والمساهمة في ضبط توازنات ما وراء الساحل والصحراء. هذا التداخل لا يعني بالضرورة تصعيداً مباشراً، لكنه يشير إلى تشكل مشهد متعدد الأقطاب على الساحة الليبية، لا يتسم بالثبات بقدر ما يخضع لحسابات دقيقة ومتحولة.

في هذا السياق، لا يمكن فصل التحركات اليونانية - التركية عن السياق الأوسع الذي تتقاطع فيه مصالح الإمارات ومصر وتركيا وروسيا والولايات المتحدة، لاسيما أن ليبيا تتموضع على تماس مباشر مع ملفات حيوية، من بينها أمن المتوسط، وممرات الهجرة، وإمدادات الغاز، والاستقرار الحدودي مع دول الساحل. ويبدو أن هذه الأطراف، رغم اختلاف منطلقاتها، تتقاطع مرحلياً في سعيها إلى صياغة معادلة نفوذ متوازنة على الأرض الليبية، سواء عبر الشراكات الاقتصادية، أو الترتيبات الأمنية، أو الانفتاح على أطراف محلية متعددة.

◙ التحركات المتزامنة من قبل أطراف إقليمية فاعلة تعكس أكثر من مجرد تبادل رسائل سياسية، إذ يبدو أن ليبيا باتت تمثل نقطة التقاء بين مشاريع متعددة الأهداف

وفي ظل هذا التشابك، تتراجع حدود الفصل التقليدية بين الملفات السيادية والاعتبارات الجيوسياسية. فكل تحرك دبلوماسي أو أمني بات يُقرأ ضمن منظومة توازنات أكبر، تتجاوز أطراف الداخل الليبي، وتعيد رسم مواضع الفعل الإقليمي في البلاد، من دون الوصول إلى توافقات صلبة بين الفاعلين.

التحركات المتزامنة من قبل أطراف إقليمية ودولية فاعلة تعكس أكثر من مجرد تبادل رسائل سياسية؛ فليبيا اليوم تُقرأ باعتبارها نقطة تقاطع إستراتيجي بين مشاريع متداخلة، يسعى كلٌّ منها لتثبيت حضوره ضمن معادلات المتوسط والعمق الأفريقي. ومن شرق البلاد إلى جنوبها، ومن سواحل كريت إلى حدود الكفرة، تتشكل خارطة مصالح جديدة، تُبنى على التموضع الفعلي داخل المشهد.

في هذا الإطار، تظهر اليونان كطرف يطمح إلى استعادة توازن بحري كانت تراه مهدداً منذ توقيع الاتفاق التركي -الليبي عام 2019، وتوظف في سبيل ذلك أدوات سياسية واقتصادية وملاحية، تحاول من خلالها تأكيد شرعية تصوراتها للحدود البحرية. ومن خلال تحركاتها الدبلوماسية في طرابلس وبنغازي، تسعى أثينا للعب دور الوسيط الحاضر في كلا الضفتين، بما يتجاوز وظيفة الاعتراض القانوني إلى هندسة تفاهمات محتملة تُراعي مصالحها في ملفات الغاز والممرات البحرية.

في المقابل، لا تخفي روسيا اهتمامها المتزايد بالجنوب الليبي، حيث تشكّل مناطق مثل الكفرة والحدود مع السودان وتشاد نقاط عبور حيوية لأيّ نفوذ عسكري أو لوجستي في الفضاء الأفريقي. ورغم تراجع ظهور مجموعة فاغنر والمستبدلة بالفيلق الأفريقي، إلا أن المعطيات تشير إلى إعادة تموضع روسي أكثر هدوءاً، لكنه لا يقل إستراتيجية، في محاولة لمواكبة التحولات الإقليمية وتوسيع هوامش التأثير في المناطق غير المشمولة بالضوء الإعلامي والدبلوماسي.

في المحصلة، لا تبدو ليبيا اليوم ساحة مواجهة مباشرة، وإنما بنية مرنة تتيح تعدد الفاعلين وتفاوت أدوارهم، بحسب الموقع الجغرافي والملف الحيوي المطروح. فبين المشروع التركي القائم على مزيج من التمكين الأمني والشراكات الاقتصادية، والمقاربة الإماراتية - المصرية ذات الطابع المحافظ، والرؤية الأوروبية المتوسعة من بوابة أمن الطاقة، إلى الحضور الروسي المتأني جنوباً، تتوزع خطوط التأثير، وتُعاد صياغة الأوزان في ظل غياب ضابط إيقاع محلي يُمسك بخيوط اللعبة.

أمام هذا التعدد في الفاعلين الإقليميين والدوليين، لا يعود سؤال السيادة في الحالة الليبية متعلقاً فقط بقدرة الداخل على اتخاذ القرار، بل يتجاوزه إلى شكل توزيع النفوذ الخارجي، وتقاطعه مع غياب مؤسسات مركزية قادرة على ترجيح كفّة الخيارات الوطنية على حساب الاصطفافات الجيوسياسية. فكل زيارة دبلوماسية، وكل تصريح تقني بشأن التنقيب أو إعادة فتح قنصلية، يحمل في طياته أبعاداً تتجاوز اللحظة، وتشير إلى هندسة أوسع لمعالم الدور الإقليمي في ليبيا.

لكن التحدي الحقيقي لا يكمن في هذه التحركات بحد ذاتها، وإنما في غياب مظلّة سياسية قادرة على تنظيم التفاعل مع الخارج ضمن أطر واضحة تحفظ المصالح ولا تُقصي الواقع. فكلما اتسعت مساحات التفاوض الخارجي، دون ضبط داخلي مرجعي، ازداد خطر الانزلاق نحو تآكل تدريجي في المفهوم التقليدي للسيادة، وتحوّل البلاد إلى هامش داخل خرائط الآخرين.

من هنا، يبدو أن مستقبل الحضور الدولي في ليبيا مرهون ليس فقط بقرارات العواصم الإقليمية، بل أيضاً بقدرة الفاعلين الليبيين على إعادة بناء توافق داخلي، يُعيد تعريف العلاقة مع الخارج وفق منطق الشراكة وليس الاصطفاف، ويستند إلى سردية وطنية قابلة للتفاوض.

5