دمشق بين "التفاهم الأمني" وهاجس "السلطة الوظيفية"

الأنظمة التي راهنت على شرعية "الوظيفة" الدولية دون بناء شرعية وطنية انتهت إلى الهشاشة.
الجمعة 2025/09/19
المصالح العليا أولا

في الأيام الأخيرة تصاعد الحديث عن اتفاقات محتملة يتقدمها ما تم تسميته بـ”الاتفاق الأمني” بين دمشق وتل أبيب برعاية أميركية. هذه المقاربة يمكن أن تستبطن خطرا عميقا يتمثل في تحويل “التفاهم الأمني” إلى مرادف لبقاء السلطة، وكأن استمراريتها مرهونة بمقدار انصياعها للوصاية الدولية والإقليمية، وليس بمقدار قدرتها على استعادة عقد اجتماعي داخلي أو بناء شرعية متينة.

المشكلة تكمن في طبيعة الحوار وشكل التفاوض، فحين تُطرح التفاهمات الأمنية كمنقذ رئيسي، بذلك تقدم السلطة نفسها الآن في صورة سلطة وظيفية أكثر منها مشروع حكم قادر على الاستمرار. فهي لا تعالج الانقسامات المجتمعية، ولا تقدم رؤية اقتصادية بديلة، ولا تعيد صياغة علاقة الدولة بمواطنيها، إنما تراهن على خارطة طريق ترسمها واشنطن، وتمنح لإسرائيل ضمانات أمنية متقدمة.

حين نتحدث عن السلطة الوظيفية فنحن نعني كيانا سياسيا لا يُعرّف ذاته من خلال مشروعية داخلية، بل من خلال الدور الذي يؤديه في معادلات خارجية.

نشأة سلطة عبر اتفاق خارجي، تحدد وظائفها الأمنية والسياسية سلفا، ستجد نفسها محاصرة بين سقف خارجي لا يمكن تجاوزه وواقع داخلي لا يمكن تلبية تطلعاته

بهذا المعنى تصبح السلطة أشبه بوسيط، يضمن مصالح قوى دولية أو إقليمية أكثر مما يضمن مصالح شعبه. هذا المفهوم ارتبط في الأدبيات المقارنة بحالات سلطات وسيطة، مثل بعض الحكومات التي انبثقت في ظل الاحتلالات أو برعاية تفاهمات دولية ضاغطة.

وفي السياق السوري الراهن، تتجلى ملامح السلطة الوظيفية في تقديم “الأمن الإقليمي” كأولوية على حساب العقد الاجتماعي الداخلي، أي أنها تُعرّف نفسها بما تفعله للآخرين لا بما تؤسسه لمجتمعها.

السؤال الجوهري هنا؛ هل تدرك دمشق أن الانسياق وراء الضغوط الأميركية بهذا الشكل يجعلها سلطة مقيّدة أكثر من كونها مستقلة.

الخشية أن يتحول هذا الانسياق إلى قيد طويل الأمد يضعف مكانة الحكم ويقوض احتمالات استمراره. فالتجارب العربية مع “السلطات الوظيفية” تؤكد أن تلك الكيانات تبقى مرتهنة بقدرة الخارج على تمويلها أو حمايتها، وما إن تتغير الموازين أو تتبدل الأولويات حتى تذوب هذه الكيانات وتفقد رصيدها المحلي.

الأخطر أن هذه المقاربة تُسقط من الحساب الداخل السوري المأزوم. فالمجتمع الذي خرج من نظام سقط تحت ثقل القمع والحرب، لا يقبل بسهولة بسلطة تنشأ على قاعدة أمنية خارجية. أي محاولة لتحويل الاتفاق مع إسرائيل إلى رافعة بقاء ستُقرأ سوريا كاصطفاف مع الخارج على حساب الداخل، وهذا الانطباع وحده كفيل بتقويض الشرعية، وتعميق الشكوك في أن “دمشق الجديدة” مجرد أداة ضمن ترتيبات دولية أكبر من حجمها.

التاريخ يعطينا إشارات قاطعة بأن الأنظمة التي راهنت على شرعية “الوظيفة” الدولية دون بناء شرعية وطنية، انتهت إلى الهشاشة. النموذج الفلسطيني في زمن أوسلو، أو سلطات ما بعد الاحتلال في العراق، كلها شواهد على خطورة تحويل الحكم إلى وسيط لمصالح قوى أخرى.

تجربة السلطة الفلسطينية بعد أوسلو قدمت لنا مثالا مباشرا؛ فنشأت سلطة عبر اتفاق خارجي، حُددت وظائفها الأمنية والسياسية سلفا، فوجدت نفسها محاصرة بين سقف خارجي لا يمكن تجاوزه وواقع داخلي لا يمكن تلبية تطلعاته. النتيجة كانت سلطة بلا سيادة حقيقية، محكومة بمعادلة وظيفية خانقة.

كذلك، حالة الحكومة العراقية بعد عام 2003، حيث تأسست سلطة برعاية أميركية، ومنذ البداية وُسمت بأنها سلطة وظيفية مرتبطة بترتيبات الخارج. ورغم وجود مؤسسات وسيادة شكلية، بقيت عاجزة عن بناء شرعية داخلية مستقلة، فارتبط استمرارها بالمظلة الأميركية والإقليمية، ما جعلها عرضة للانقسامات الداخلية والارتهانات المتعددة.

السؤال الجوهري هنا؛ هل تدرك دمشق أن الانسياق وراء الضغوط الأميركية بهذا الشكل يجعلها سلطة مقيّدة أكثر من كونها مستقلة

يتضح في هذا السياق أن ما يلوح في الأفق لا يبتعد كثيرا عن ملامح “الدولة الزبائنية”، حيث تُستمد الشرعية من الخارج لا من الداخل، ويُعاد توزيع الريع السياسي الممنوح عبر قنوات دولية على شرائح محلية مختارة لضمان حد أدنى من الاستقرار. غير أن هذا الاستقرار يظل هشّا ومعلّقا بتدفق الدعم واستمرارية الرضا الدولي، ما يحوّل السلطة إلى جهاز إداري محدود الفاعلية، سرعان ما يهتزّ بنيانه إذا تبدلت المصالح أو انقطع شريان الدعم.

في الموازاة مع “الدولة الزبائنية”، يطل علينا مفهوم آخر لا يقل خطورة، هو السيادة المُفرغة. فأي سلطة ضمن هذا الإطار قد ترفع خطاب السيادة كعنوان مركزي في خطابها السياسي، لكنها عمليا تُفرغ هذا المفهوم من مضمونه حين تُدار قراراتها الكبرى عبر شروط خارجية. السيادة هنا تصبح قشرة شكلية، تُستخدم لتجميل واقع الارتهان، بينما يُعاد تعريفها من قبل القوى الراعية بما يخدم مصالحها الأمنية والسياسية.

دمشق أمام مفترق طرق. إما أن تُعيد الاعتبار لمفهوم الدولة بوصفها عقدا وطنيا قادرا على جمع السوريين حول مشروع جامع، أو أن تختزل نفسها في “سلطة وظيفية” تستمد بقاؤها من الرضا الخارجي فقط. المسار الأول صعب ومعقد لكنه يمنحها فرصة حياة أطول، أما المسار الثاني، فمهما بدا مغريا في لحظته، سيحولها إلى سلطة مؤقتة، وعاجزة عن حماية نفسها أو مجتمعها في المدى البعيد.

بهذا المعنى، السؤال المطروح ليس ما إذا كان الاتفاق مع إسرائيل ممكنا أو لا، بل هل تريد دمشق أن تعيش كسلطة حقيقية تستند إلى مجتمعها، أم كسلطة وظيفية تنتهي وظيفتها بانتهاء الحاجة إليها؟