لبنان على حافة إعادة تعريف معادلة السلاح

التمويل الدولي المقترح للجيش سيكون أداة سياسية لضمان بقاء لبنان ضمن فلك "الدولة الرسمية" لا "الدولة الموازية".
الأحد 2025/08/03
الموقف الرسمي من سلاح حزب الله بدأ يتسم بالوضوح

يبدو أن لبنان يدخل مع الخطاب الأخير لرئيس الجمهورية العماد جوزيف عون مرحلة سياسية تتجاوز مجرد سجال داخلي حول “سلاح حزب الله” إلى ما يمكن اعتباره محاولة فعلية لإعادة صياغة المعادلة الأمنية – السياسية التي حكمت البلاد منذ ما بعد اتفاق الطائف.

الخطاب الذي أتى من موقع رمزي عالٍ، في عيد الجيش، حمل أكثر من رسالة، الأولى تمثلت بتوفير مظلة سياسية صلبة للحكومة ورئاسة الوزراء للمضي في ملف احتكار السلاح بيد الدولة. والثانية جاءت في إطار صياغة رؤية شبه مكتملة المعالم لتنفيذ هذا الهدف ضمن إطار دولي – إقليمي محدد المعالم، لا يخلو من دعم غربي – عربي مباشر.

تصريحات الرئيس عون لم تكتفِ بالإشارة المبدئية إلى ضرورة احتكار السلاح، بل أرفقتها ببرنامج عمل محدد يتضمن تفاوضاً مباشراً مع الولايات المتحدة، وتنسيقاً مع رئيس الحكومة نواف سلام ورئيس مجلس النواب نبيه بري، رغم التعقيد المعروف في علاقة الأخير بحزب الله. فالملامح العملية للخطة ليست تفصيلية فحسب، بل تحاول أن تضع على الطاولة مقاربة شاملة تتركز في وقف الاعتداءات الإسرائيلية، وبسط سلطة الدولة على كامل الأراضي اللبنانية، وجمع السلاح وتسليمه إلى الجيش، وربط هذه العملية ببرنامج تمويلي طويل الأمد للجيش وقوى الأمن، وإطلاق مؤتمر دولي لإعمار لبنان.

هذا الربط بين ملف السلاح وبرامج التمويل الدولي يحمل بعدين أساسيين، أولهما بأن الإيحاء للمجتمع اللبناني بأن التخلي عن السلاح خارج الدولة لن يكون تنازلاً مجانياً، وإنما جزء من مقايضة كبرى تشمل إعادة بناء الاقتصاد والبنية التحتية. وثانياً، إرسال إشارة للمجتمع الدولي بأن بيروت مستعدة لربط الإصلاح الأمني بمشاريع دعم ملموسة، بما قد يحفّز المانحين على الانخراط في عملية سياسية – اقتصادية متكاملة.

رئيس الحكومة نواف سلام يظهر في هذا السياق كضابط الإيقاع التنفيذي للخطة. فبينما يتقدم رئيس الجمهورية بالخطاب السياسي، تتحرك رئاسة الوزراء في المسار التفاوضي العملي، سواء في صياغة تعديلات على المسودة الأميركية أو في التحضير لعرضها على مجلس الوزراء. هذا التوزيع في الأدوار بين الرئاسة ورئاسة الحكومة يعكس إدراكاً بأن المعركة معقدة ومتعددة الجبهات؛ سياسية – قانونية - دبلوماسية - أمنية، وأن أيّ خلل في التنسيق قد يفشل المشروع قبل أن يبدأ.

◙ بالنسبة إلى حزب الله، القضية ليست مجرد سلاح. إنها تتعلق بجوهر دوره في لبنان وشرعية وجوده السياسي – العسكري منذ الثمانينات

لكن في المقابل، لا يمكن إغفال أن رئيس الحكومة يتحرك في حقل ألغام داخلي، حيث يتحتم عليه أن يقنع أطرافاً في الحكومة والبرلمان، بعضها حليف أو قريب من حزب الله، بالموافقة على مسار يهدد الركيزة العسكرية للحزب. هنا يظهر التحدي الأكبر في قدرة السلطة التنفيذية على بناء جبهة سياسية داخلية صلبة، وهو ما قد يفسر إصرار الرئيس عون على دعوة “البيئة الوطنية الكريمة” للحزب إلى الانخراط في المشروع، محاولةً كسب غطاء شعبي يوازي الغطاء السياسي.

بالنسبة إلى حزب الله، القضية ليست مجرد سلاح. إنها تتعلق بجوهر دوره في لبنان وشرعية وجوده السياسي – العسكري منذ الثمانينات. الحزب يدرك أن تسليم سلاحه يعني فقدان ورقة قوته الأساسية أمام إسرائيل، وتراجع نفوذه الإقليمي، وخسارة قدرته على التأثير في المعادلة الداخلية. لذلك، من المرجح أن يواجه أيّ محاولة لسحب سلاحه بمروحة من أدوات الرد، تشمل على الصعيد السياسي تعطيل مسار الحكومة عبر الكتلة الوزارية والبرلمانية المؤيدة له، ورفع شعار “المقاومة” كقضية وطنية كبرى لمنع تحويل المسألة إلى قرار إداري – تنفيذي.

وعلى الصعيد الأمني الميداني، تتمثل في إبقاء مناطق نفوذه في الجنوب والبقاع كأرض مغلقة أمام أيّ عملية تجريد سلاح فعلية، عبر شبكات دعم محلية وقواعد أمنية متماسكة. بينما إعلامياً وخطابياً فيعمل على توسيع حملات التشكيك في نيات الخطة، واتهامها بأنها مشروع أميركي – إسرائيلي لتجريد لبنان من عناصر قوته في مواجهة إسرائيل.

التحرك الرئاسي في لبنان يأتي في لحظة إقليمية حساسة. إسرائيل تعيد تصعيد اعتداءاتها على لبنان، والولايات المتحدة تعيد تفعيل أدواتها الدبلوماسية في بيروت، والسعودية وفرنسا تبحثان عن دور في إعادة ترتيب البيت اللبناني. من الواضح أن واشنطن ترى في هذه اللحظة فرصة لتثبيت “اتفاق وقف نار” على الحدود، وربطه بعملية داخلية لتقييد سلاح حزب الله. لكن نجاح هذا المسار قد يحتاج إلى توافق إقليمي – دولي أوسع.

التمويل الدولي المقترح للجيش لن يكون فقط دعماً مادياً، بقدر ما سيكون أداة سياسية لضمان بقاء لبنان ضمن فلك “الدولة الرسمية” لا “الدولة الموازية”. في المقابل، أيّ فشل في تنفيذ الخطة أو تراجع المانحين سيعيد تعزيز سردية حزب الله عن “تآمر الخارج” على لبنان.

نجاح خطة احتكار السلاح بيد الدولة سيكون تحولاً تاريخياً في لبنان، شبيهاً بلحظة ما بعد الطائف. لكنه في حال الفشل، قد يؤدي إلى نتائج عكسية متمثلة بتعزيز الاستقطاب الطائفي، وتكريس ازدواجية السلاح، وإضعاف مؤسسات الدولة أكثر. الأسوأ أن فشل المسار قد يدفع أطرافاً دولية وإقليمية إلى التعامل مع لبنان كدولة “غير قابلة للإصلاح” أمنياً، ما يفتح الباب أمام سيناريوهات فيدرالية أو كونفيدرالية غير معلنة، أو حتى إعادة إنتاج منطق “المناطق الأمنية” الذي خبرته البلاد في الثمانينات والتسعينات.

5