لا يمكن أن يبقى ملايين الأطفال العرب خارج المدرسة
مع بدء السنة الدراسية تستطيع معظم الدول العربية أن تشير بكل ارتياح إلى ارتفاع نسبة ارتياد المدارس الابتدائية إلى ما يقارب 90 في المئة من التلاميذ في سن الدراسة. ولكن ذلك لا يخفي بقاء حوالي 30 مليون تلميذ خارج صفوف الدراسة. وهو رقم ضخم بحجم المآسي الاجتماعية التي يمثلها.
وتقول منظمة اليونيسف التي تؤكد هذا الرقم إن من بين هؤلاء الأطفال الغائبين عن مقاعد الدراسة أكثر من 16 مليون في السودان وغزة، و645 ألفا في غزة من الأطفال ضحايا الحرب.
وقد شكلت الحرب، على مدى عقود، أكبر مدمر للأنظمة التعليمية في المنطقة. وكان ذلك الحال في العديد من دول المنطقة مثل العراق وسوريا واليمن وليبيا.
واليوم، لا تزال الحرب تقتل وتشوه وتجوع أطفال غزة. وعلاوة على ذلك، فهي تعيق تعليمهم بشكل شبه كامل، على الرغم من الجهود الشجاعة التي يبذلها بعض المعلمين الفلسطينيين الذين يكافحون من أجل تنظيم حصص دراسية للأطفال ولو كان ذلك في ظروف مستحيلة. ووفقا للأونروا، فإن 97 في المئة من مدارس غزة قد تعرضت لدرجات متفاوتة من التدمير.
ومشكلة الصراعات المسلحة أنها تترك آثارا على تعليم الأطفال لفترات أطول من مدة الحرب ذاتها. وكانت هذه أحد الدروس المؤلمة للغزو الأميركي للعراق عام 2003. ويقول الصحافي العراقي مزار كمال إن “نظام التعليم في العراق تعرض لضربة شديدة نتيجة تلك الحرب، حيث انخفض الإنفاق العام على التعليم بعدها إلى النصف (3.3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي) بينما ارتفعت معدلات التسرب من المدارس إلى 20 في المئة”.
ووفقا لليونيسف، لا يقل اليوم عدد الأطفال العراقيين المنقطعين عن التعليم عن حوالي مليوني طفل.
ليس ترفا أن تعتبر البلدان العربية إنهاء ظاهرة الانقطاع عن التعليم ضمن أولوياتها وأن تجعل العودة المدرسية موعدا شاملا للجميع
تتسبب الحروب في النزوح الجماعي وتفكك النسيج الأسري. ونفس النتيجة يمكن أن تؤدي إليها أيضا تدفقات النزوح القسري والهجرة غير النظامية. وهي كلها عوامل ترفع في نسب الانقطاع عن التعليم وانتشار الأمية الوظيفية بين الأطفال، مما يحرم هؤلاء من المؤهلات الكافية لدخول سوق الشغل أو النجاح في الحياة فيبقون عالقين في مستنقعات البطالة والجنوح ومحاولات شق عباب البحر مع أفواج الحالمين بالهجرة إلى الشمال.
وقد عانت بعض البلدان العربية ولا تزال تعاني من مشكلة التسرب المدرسي حتى إن هي تجنبت ويلات الحروب والنزاعات. تتأجج ظاهر ة الانقطاع المدرسي عندما تتضافر العوامل الاجتماعية لتدفع الأطفال وخاصة البنات إلى خارج أسوار المدارس.
ويحدث ذلك غالبا عندما تتشكل حلقة مفرغة يلعب فيها الفقر دورا محوريا.
تشير الدراسات إلى أن معظم التلاميذ المنقطعين عن الدراسة ينحدرون من أسر متواضعة الدخل، لا تستطيع تحمل تكلفة شراء المواد المدرسية، ولا الإنفاق على النقل المدرسي، ناهيك عن دفع ثمن الدروس الخصوصية.
وتقدر منظمة الإسكوا الفجوة في الالتحاق بالمدارس الابتدائية بين الأطفال المنحدرين من الأسر ذات الدخل المتواضع والأطفال المنحدرين من الأسر الأكثر دخلا بنسبة 46 في المئة في السودان، و34 في المئة في اليمن، و19 في المئة في العراق.
كما تزداد احتمالات البقاء خارج المدرسة بالنسبة للأطفال في المناطق الريفية الأكثر فقرا، حيث عادة ما تكون البنية التحتية، بما في ذلك تجهيزات المياه والصرف الصحي والنقل، فضلا عن توفر المعلمين، متدنية بالمقارنة مع مثيلاتها في المدن والمناطق الأكثر حظا في التنمية. ويزيد الطين بلة تشغيل القُصّر من قِبل أسرهم. ففي مصر، على سبيل المثال، يعمل حوالي 4.2 مليون طفل مع أسرهم في الزراعة والصناعة وأنشطة أخرى.
وفي حين ترتفع نسبة الانقطاع عن التعليم لدى الذكور أكثر منها لدى الإناث في بلدان مثل تونس، فإن العكس صحيح في بلدان عربية أخرى. وتُظهر أرقام الإسكوا لعام 2020 أن الانقطاع عن التعليم يبلغ مستويات أعلى لدى الإناث بنسبة 11 في المئة في العراق و10 في المئة في اليمن.
وتفاقم ظاهرة زواج القاصرات نسب الانقطاع عن التعليم لدى الفتيات خاصة في الريف. وقد أظهرت دراسة أجراها صندوق الأمم المتحدة للسكان في العراق أن الزواج قبل سن 14 عاما كان السبب وراء تسرب أكثر من ثلث الفتيات من المدرسة وأن 97 في المئة من الفتيات اللاتي يواصلن الذهاب إلى المدرسة أقل عرضة للزواج بين سن 15 و18 عاما. كما أظهرت الدراسة أن الفتيات من الأسر ذات الدخل المنخفض أكثر عرضة للزواج قبل سن 18 عاما بنسبة 30 في المئة وأكثر عرضة للانقطاع عن الدراسة بنسبة 84 في المئة.
ومهما كانت الأسباب أو التعلات فإن بقاء 30 مليون طفل خارج مقاعد الدراسة يمثل إهدارا لطاقات تحتاجها كل البلدان العربية بلا استثناء
وفي مصر أظهرت دراسة نشرها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مارس 2021 أن أكثر من 117000 فتاة تتراوح أعمارهن بين 10 و17 عاما متزوجات. من بينهن، انقطعت حوالي 36 في المئة عن الدراسة، وبقيت حوالي 40 في المئة منهن أميات.
قد تكون أيسر الطرق لمعالجة هذا الوضع تحديد سن أدنى للزواج بالنسبة للفتيات. ولكن مثل هذا الإجراء وإن كان يبدو بديهيا في بعض الدول العربية فإنه لا يزال يشكل مسألة خلافية في بلدان أخرى ويصطدم بتقاليد وقيود مجتمعية جائرة خاصة في بعض الأرياف.
وبقدر ما تحرم هذه التقاليد المرأة من حقها في التعليم ولعب دور نشيط في المجتمع فإنها تحرم بلدانها من محرك أساسي في جهود التنمية.
قد يكمن جانب من الحل في تقديم دعم مادي للأسر ذات الدخل المحدود لتشجيعها على إرسال أطفالها، من كلا الجنسين، إلى المدارس. لكن ذلك بقي رهين خطط التنمية التي تخلص المناطق الريفية من الفقر والإهمال. وقد أظهرت التجربة المغربية، مثلا، أن بناء المدارس في المناطق الريفية الأكثر فقرا من شأنه أن يساهم بشكل كبير في تحسين نسب التحاق الفتيات بالمدارس.
هناك طائفة أخرى من التلاميذ المرغمين على الانقطاع عن الدراسة. هؤلاء هم آلاف الأطفال من ذوي الاحتياجات الخصوصية الذين يجدون أنفسهم بين مطرقة السياسات التعليمية (وأحيانا القوانين) التي ترفض دمجهم في الفصول الدراسية العادية وسندان الممارسات الخاطئة التي لا توفر مدارس مجهزة بشكل ملائم للأشخاص ذوي الإعاقة. ويبقى فصل الأطفال ذوي الاحتياجات الخصوصية عن بقية التلاميذ ممارسة مثيرة للجدل. فقد أظهرت التجربة السعودية، على سبيل المثال، أن المدارس العادية التي تقبل بإدماج الأشخاص ذوي الإعاقة يمكن أن تحقق نتائج جيدة.
ومهما كانت الأسباب أو التعلات فإن بقاء 30 مليون طفل خارج مقاعد الدراسة يمثل إهدارا لطاقات تحتاجها كل البلدان العربية بلا استثناء.
وإذ يحرم الإقصاء من الدراسة ملايين الأطفال من تحقيق حلمهم بالغد الأفضل فهو أيضا يعرض المجتمعات والأنظمة إلى خطر عدم الاستقرار نتيجة وجود جيوب ضمن الأجيال الصاعدة تشكو الحرمان والإقصاء.
ولذا ليس ترفا أن تعتبر البلدان العربية إنهاء ظاهرة الانقطاع عن التعليم ضمن أولوياتها وأن تجعل العودة المدرسية موعدا شاملا للجميع.