لا يزال جرس العدالة يدق من أجل ذلك اليوم الحزين
ليس الرابع من آب – أغسطس يوما بأربع وعشرين ساعة، بل هو زمن تجمدت مفاصله. وقف ولم يتحرك، انكسر ولم يقع. هو اليوم الأول والأخير: الأول لأنه نسف ما قبله، والأخير لأنه ظل مقيما في ما بعده. ألم تكن بيروت واقفة في انتظاره؟ أليس هو جزءا من مواعيدها المختلة، ومدار ثقبها الكوني، وانكسارها الذي ربط خيطي الموت والحياة كما لو أنهما الشيء نفسه؟
قبل خمس سنوات انفجرت بيروت. المدينة التي اعتادت أن تنفجر هي نفسها التي فوجئت بانفجارها. يعرف البيروتيون كل شيء عن عذاب، وسهد، وضجر، وألم، ورياء، وكذب، وعنفوان مدينتهم حين تذهب إلى حفلاتها بأقنعة متعددة. غير أنهم استيقظوا على فجر أضفى ضبابه على مدينتهم قناع المرأة الحزينة، ذلك القناع الذي سال على وجهها كما لو أنه دموع جيرية ساخنة. أي حرقة أحست بها المناديل، وأي ألم تذوقت الأصابع مرارته!
في ذلك اليوم الأسود قُدر لبيروت أن تستعيد صحبة البارود في كل حالاته: الصلبة، والسائلة، والغازية. كان للحواس مكانها وهي تصنع حالاتها الصوتية، والبصرية، والشمية، واللمسية، والتذوقية. في الرابع من آب – أغسطس 2020 صارت بيروت تُرى كما لم تُرَ من قبل، تُشم بطريقة تفضح عناء غبارها، تُلمس خشنة مثل جلد قنفذ، ويُسمع رحيق عسلها وهو يتبخر، ولا يتوق الضجر إلى خنقها إلا ليتذوق أصوات العابرين بحنجرتها. تلك هي بيروت اللئيمة، المرهقة، المتعبة من سهرة الليلة الفائتة حين وقع الانفجار.
في ذلك الصباح ذهبت بيوت مباشرة إلى المقبرة. ذهب نصفها إلى النصف الآخر الذي تحول إلى مقبرة. الأصح أن موتاها ذهبوا إلى البحث عما تبقى من أحيائها. لم ينتظر أحد أحدا، لأن من فجر المرفأ كان مستعدا لزرع الألغام تحت الكلمات، وفي عمق النظرات، وعلى مسافة سنتيمتر من الأسئلة، وبين صرخة احتجاج وأخرى.
◄ هناك سلاح فائض، سلاح فالت، لم تتمكن الدولة من ترويضه أو السيطرة عليه، ومن ثم نزعه. سلاح أقوى من الدولة، وبالتالي أقوى من القانون، ما يعني أن العدالة لن تتمكن منه
كان العدو أمامكم، أيها البيروتيون، وخلفكم، ومن حولكم. العدو محيط بكم، وأينما توجهتم تلقوه أمامكم. العدو الذي قتل رفيق الحريري، وسمير قصير، وجبران تويني، هو نفسه الذي قتل لقمان سليم. كانت الحرب متكافئة، عادلة، ونزيهة: رصاصة في مقابل كلمة، لغم في مقابل مقال، خطوة واحدة خلف الخطوط الحمراء لتقع الساعة الخامسة والعشرون. حدث انفجار بيروت في الساعة الخامسة والعشرين: لا زمن قبله، ولا زمن بعده، لا مكان وراءه، ولا مكان أمامه.
أسخف ما في المسألة أننا انتظرنا أن يعترف العدو بخطأ غير مقصود، فيذهب معنا إلى المقبرة بباقات ورد تليق بالموتى الذين كانوا ينتظرون ببراءة. مات البعض نائما، مات البعض ذاهبا إلى عمله بتكاسل، مات البعض عائدا إلى فراشه بعد ليل حراسة طويل. حلّقت أرواحهم سوية، كما لو أنهم حضروا الحفلة الموسيقية نفسها.
كتب العراقي كنعان مكية يصف القصف الأميركي على بغداد: “كنت أستمع إلى إيقاع موسيقى سيمفونية وأنا أرى القنابل تسقط على بغداد.” هل كان مطلوبا من البيروتيين أن يكرروا مقولة ذلك العبقري؟
القاتل معروف، ولا يزال معروفا. لم تكن العدالة بحاجة إلى مزيد من الأدلة التي يحتاجها القانون لتقول رأيها. لكن ذلك لا يكفي في بلد سُرقت فيه روح العدالة، فصار عصيا على قوانينه أن تُطبق على الجميع بالتساوي، خوفا من استفزاز طائفة، فيحدث ما لا تُحمد عقباه. الحرب الأهلية هي ما لا تُحمد عقباه.
هناك سلاح فائض، سلاح فالت، لم تتمكن الدولة من ترويضه أو السيطرة عليه، ومن ثم نزعه. سلاح أقوى من الدولة، وبالتالي أقوى من القانون، ما يعني أن العدالة لن تتمكن منه. ما يؤلم في الحكاية أن هذا السلاح كان يوما محل فخر اللبنانيين، وقتلى انفجار مرفأ بيروت منهم، لكونه سلاح المقاومة التي حررت جنوب بلادهم. ما كان أحد من القتلى ليفكر أن ذلك السلاح سيقتله، بل وسيمنع العدالة من القبض على قاتليه.
حدث ذلك في لبنان، البلد الصغير جغرافيّا، الكبير في معانيه التي اتضح أنها مجرد أقاويل شعرية. لقد مات الأبرياء وهم على يقين بأن لبنان قطعة من السماء.