لا مكان للعلاقات العامة في حرب غزة
ظهر استطلاع أجرته مؤخرًا صحيفة نيويورك تايمز وجامعة سيينا لدى الناخبين الأميركيين التدهور الحاد في صورة إسرائيل داخل الولايات المتحدة نتيجة حرب غزة.
فبعد أن كان 47 في المئة من الجمهور الأميركي يُبدون تعاطفًا مع إسرائيل خلال الفترة التي تلت مباشرة هجوم حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 (مقابل 20 في المئة فقط كانوا يُبدون حينها تعاطفًا مع الفلسطينيين)، ارتفعت نسبة الناخبين الأميركيين الذين يساندون الفلسطينيين إلى 35 في المئة، مقابل 34 في المئة يدعمون إسرائيل.
وتُظهر العديد من الاستطلاعات الأخرى توجهات مماثلة. ويبرز هذا التحول بشكل خاص لدى الشباب، حيث يشير نفس الاستطلاع إلى أن حوالي سبعة من كل عشرة ناخبين أميركيين دون سن الثلاثين يعارضون منح إسرائيل مساعدات اقتصادية أو عسكرية إضافية.
هذا التغيير في المواقف شمل في الواقع الرأي العام في معظم بلدان العالم، والمظاهرات الحاشدة التي تلت اعتراض إسرائيل “لأسطول الصمود”، خاصة في أوروبا، خير دليل على ذلك.
وقد لعب هذا التحول في اتجاهات الرأي العام دورًا حاسمًا خلال الأشهر الأخيرة في دفع العديد من الحكومات الغربية، خاصة الأوروبية منها، إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية. بقيت الإدارة الأميركية وحدها تدافع عن مواقف حكومة نتنياهو المتعنتة، لكن واشنطن وجدت نفسها في موقف صعب إزاء العزلة المتفاقمة للحكومة الإسرائيلية.
لم يُخفِ ترامب ووزير خارجيته ماركو روبيو، خلال الأيام الأخيرة، في معرض دفاعهما عن خطة السلام في غزة، انشغالهما بتزايد عزلة إسرائيل و”تدهور مكانتها في العالم”.
◄ التحول يبرز بشكل خاص لدى الشباب حيث يشير الاستطلاع إلى أن حوالي سبعة من كل عشرة ناخبين أميركيين دون سن الثلاثين يعارضون منح إسرائيل مساعدات اقتصادية أو عسكرية إضافية
وتعهّد الرئيس الأميركي في هذا السياق بأنه سينقذ إسرائيل من تلك العزلة، لكنه لم يوضح كيف سيفعل ذلك. فهذه العزلة، في جانبها الدبلوماسي، تُعدّ نتاجًا مباشرًا لضغوطات الشارع في العديد من البلدان الغربية، حيث وجدت الحكومات نفسها مجبرة على تعديل سياساتها في اتجاه إظهار تعاطف أكبر مع الفلسطينيين، مهما كانت حسابات الربح والخسارة التي كانت تحكمها سابقًا.
كل ذلك وضع الحكومة الإسرائيلية في طريق مسدود. فهي تعرف أنه إن مضت قدمًا في اتجاه ضم أجزاء من الضفة الغربية — كما تهدد بذلك — فسوف تدفع صورتها الخارجية نحو مزيد من الانهيار، في وقت بدأت فيه مؤشرات عن خطر متنامٍ لحصار اقتصادي يُراكم الحصار الدبلوماسي.
في هذا الخضم، يتراءى لأصحاب القرار الإسرائيليين أن كسر حلقة الرأي العام قد يكون أيسر التحديات. وفي هذا الإطار، يحاول بعضهم تفسير ما يواجهونه من تنديد عالمي على أنه ناتج أساسًا عن قصور في صناعة الصورة، وليس عن سياساتهم الخاطئة.
بل لديهم هذه الأيام اهتمام بمنصات التواصل الاجتماعي، وخاصة تيك توك، على ضوء ما قد يوفره امتلاك رجال أعمال أميركيين متعاطفين معها لأغلبية الأسهم في هذه الشركة من إمكانيات لتعديل خوارزميات المنصة، بعد إبرام صفقة تقصي الصين بقيمة 14 مليار دولار.
الواقع أن الحرب في غزة، بكل فظائعها ودمارها، قضت على معظم الهامش الذي كانت تتمتع به سابقًا كبرى المؤسسات العاملة في مجال العلاقات العامة. لم تعد هناك شركة علاقات عامة أو برامج حكومية، مهما كانت موازناتها، قادرة على تبرير ما حدث ويحدث في غزة.
حتى ميزانية “الدبلوماسية العامة” للخارجية الإسرائيلية، البالغة 159 مليون دولار، وما تتضمنه من حملات دعاية رقمية، ومن بينها برنامج للتعاون مع شركة غوغل مدعوم بالإعلانات بقيمة 45 مليون دولار، ولا الدعوات الموجهة إلى مئات “المؤثرين” الغربيين لزيارة إسرائيل، يمكن أن تفيد الحكومة الإسرائيلية في شيء.
فقد خرجت حرب غزة منذ زمن بعيد من مجال تأثير العلاقات العامة، بعد أن انتشرت صور الموت والجوع على جميع وسائل التواصل الاجتماعي وشاشات التلفزيون.
وأصبح المحللون السياسيون، وجماعات الضغط، ومختصو الصورة، بلا أي دور يمكن أن يلعبوه. اكتسبت مآسي غزة زخمًا أخلاقيًا وعاطفيًا لدى معظم شعوب العالم، ونشأ تبعًا لذلك واقع جديد لا يمكن أن تغيّر منه العلاقات العامة شيئًا.
فمن القواعد الأساسية للعلاقات العامة أنه إذا كانت الصورة المراد رسمها بعيدة جدًا عن الواقع، فلن تنفع معها مساحيق التجميل. في هذا الإطار، قد تكون خطة ترامب الأخيرة بمثابة طوق نجاة لإسرائيل من مأزق لن تخرجها منه رتوشات العلاقات العامة.