عيدروس الزبيدي.. الاتفاقيات الإبراهيمية بعد اتفاق الرياض
لم يعد الجنوب يرضى أن يُعامل كقِطعة طيّعة تُستعمل وقت الحاجة ثم تُلقى إلى رف النسيان، تحرير عدن في 2015 وتحرير المكلا 2016، بتخطيط ودعم إماراتي ضمن مظلة التحالف العربي، لم تكن مجرد عمليات عسكرية عابرة، كانت عملية تأسيس قوة فعلية قادرة على تغيير ميزان القوى في اليمن وجعل الجنوب لاعبًا لا مهزومًا. هذه الوقائع الميدانية — من صدّ محاولات التمدد والإخلال التي قامت بها قوى محلية متنفذة إلى إعاقة أي مسعى للسيطرة على ميناء أو مدينة إستراتيجية صنعت واقعًا لم يعد بالإمكان تجاوزه بمجرد كلمات إطراء أو وعود شكلية، وما حصل لاحقًا من وصول إلى مشارف الحديدة وصدّ تحركات تنظيمية في مناطق حساسة لم يأت من فراغ، بل من حسابات أمنية وسياسية رصينة أرادها الجنوبيون لتثبت أنهم ليسوا ملحقًا في لعبة الآخرين، بل طرفًا يُحسم أمره على الأرض.
اتفاق الرياض 2019 وُلد من هذا الواقع العسكري والسياسي، لم يكن وثيقة عرفية فحسب، بل محاولة لإحكام حلّ هزليّ للفراغ الأمني والسياسي الذي خلفته سنوات القتال والتدخلات، لكن تنفيذ الاتفاق تعثر أمام قصور في الإرادة السياسية لدى ما يُسمى بـ”الشرعية”، تلك الشرعية التي جاء بعضها إلى السلطة عبر ترتيبات وتوافقات خارجية أكثر منها عبر صناديق الاقتراع، وهذا العجز في التنفيذ، إلى جانب محاولات الالتفاف على بنود الاتفاق أو تأجيلها، هو ما دفع الجنوب اليوم ليقول بصوت أعلى.. لا مزيد من التأجيل، لا المزيد من وعود العابرين وحتى رفض الوصاية.
الخطاب الجنوبي الراهن يشتبك مع جذرين.. الأول ميداني وعسكري. لقد برهن الجنوب أنه قادر على حماية مكاسبه وقطع شوط طويل نحو بناء مؤسسات وسيطرة على المشهد المحلي، والثاني سياسي ودستوري. وهو السؤال الذي يحرج الجميع.. ما هو تعريف الشرعية إذا لم يكن شعب الجنوب قد عبر عن إرادته بحرية من خلال انتخابات أو استفتاء؟ المجلس الرئاسي جاء بصيغة توافقية أثرت على استقرار الدولة لكنه لم يحمل تفويضًا شعبياً واضحًا، والجنوب اليوم يطالب باستحقاقات مؤجلة قد تكون حاسمة في إعادة صياغة هذا التعريف، القفز على تعريف الشرعية هو استخفاف لا يليق بالجمهوريات التي صنعت في 1962ﻻو1967 وحتى في الوحدة السياسية التي قامت في 1990 بنظام جمهوري.
ومن هنا ينبع الجدل حول الانضمام المحتمل للاتفاقيات الإبراهيمية، من يظن أن المجلس الانتقالي الجنوبي يعرض “بيع القضية” أو تقديم ترقيعة مجانية لِكي يُثبت ولاءه الإقليمي، يجهل منطق السياسة، الانضمام إلى أطر إقليمية مثل اتفاقات إبراهيم ليس “مقايضة” تُمنح أو تُمنَع بلا ثمن، هو قرار استراتيجي مرتبط بمسألة الأمن والإفادة الاقتصادية والسياسية، الفلسطينيون وقعوا أوسلو وما نتج عنه من اتفاقات ومآلها يعلم الجميع، فلا أحد يعطي أحدًا دون غايات واضحة ومتبادلة، والسلام هو استحقاق، لكن استحقاقه يُبنى على تفاهمات وتنفيذ وليس على خطابات من دون تأثير عملي، كل دول المنطقة تفاوض، والسرّية والاتصالات والتوازنات هنا ليست عيبًا بل شرط بقاء، لكن هذا لا يغيّر حقيقة أن الجنوب يملك ورقته: الاستقرار مقابل الاعتراف والضمانات.
◄ السلام هو استحقاق يُبنى على تفاهمات وتنفيذ وليس على خطابات من دون تأثير عملي فكل دول المنطقة تفاوض والسرّية والاتصالات والتوازنات هنا ليست عيبًا بل شرط بقاء
لا يمكن فصل الطرح الجنوبي عن أمرٍ آخر كشف تناقضات وجود الإخوان في مؤسسات السلطة والحكم، الإخوان ليسوا مجرد فصيل سياسي، حضورهم داخل تركيبة المجلس الرئاسي وممارستهم لأنشطة عسكرية وسياسية تحت غطاء “الجيش الوطني” و”حزب التجمع اليمني للإصلاح” في مديريات من محافظات مأرب وتعز، يجعل من أي تسوية شاملة أمراً معقداً، الانتقالي لا يطالب بإقصاء قِطاع بعينه من شهوة السلطة، بل يطالب بتبيان دور كل قوة في المشهد، ومسألة الإخوان هنا ليست مجرد اتهام أخلاقي بل إشكالية عملية.. كيف تُبنى دولة ديمقراطية ومستقرة وفي داخلها تنظيم له ميليشيات ونفوذ متداخل؟ الجنوبي يرفض أن يكون استقرار بلاده رهينة توازنات من صنعتها قوى غير محايدة أو مضطرة للتلاعب بالمناصب.
لا يجب أن نتصور الجنوب كقضية محلية محصورة، لقد أصبح ورقة إقليمية، البوابة البحرية الجنوبية من باب المندب إلى البحر العربي لم تعد مجرد خرائط جغرافية، بل خطوط حياة اقتصادية وإستراتيجية للمنطقة بأسرها، في مشهدٍ تتسارع فيه التحديات الإيرانية، وتتصاعد صراعات الوكلاء، ويترنّح أمن الملاحة والموارد، فإن أي قوى دولية أو إقليمية تريد استقرار الخليج والبحر الأحمر عليها أن تعيد قراءة دور الجنوب، هل ستُعامل القوى الجنوبية كطرف تفاوض جاد يَصوغ ترتيبات أمنية اقتصادية، أم سيظل الجنوب ضحية صفقات تُقترح في غرف معزولة دون أن تمس أرض الواقع؟
الجنوب اليوم لا يطلب الشفقة، ولا يزايد على أحد: يطالب بحقّ. حقوقه المعلّقة على رفّ الزمن مدنية وسياسية وثقافية ليست امتيازًا تُمنح، بل قرارات تاريخية يجب أن تُتخذ، ومن يظن أن تجاهل هذه المطالب أو تأجيلها لِکَنَف توافقات شكلية سيُبقي البلد موحدًا ومستقرًا، مخطئٌ جدًّا، الوحدة الحقيقية لا تُبنى على الإملاءات ولا على تحالفات ظرفية، بل على توافقات شعبية تُترجم إلى مؤسسات وضمائن واضحة.
إذا كانت دروس تحرير عدن والمكلا وصدّ المحاولات التوسعية واستعادة السيطرة على مداخل ومدن إستراتيجية علّمت شيئًا، فهو أن القوة التي لا تستند إلى شرعية شعبية ستظل هشّة، والآن، وبعد أن أثبت الانتقالي أنه قوة لا يُستهان بها ميدانيًا وسياسيًا، صار عليه أن يقدّم نفسه كطرف مسؤول أمام العالم فهل نريد تسوية حقيقية تقوم على قاعدة شعبية؟ ، أم نريد إبقاء المشهد على صفيح ساخن إلى أجل غير مسمى؟.
ما يطلبه الجنوب ليس ثأرًا ولا استعراض قوة، بل إنهاء زمن الانتظار المؤلم، إنه دعوة للاعتراف بأن التاريخ لا يُعاد بالتراتيل الدبلوماسية وحدها، بل بالنتائج الواقعية على الأرض وبإرادة الشعوب، الأطراف الإقليمية والدولية أمام خيار: المشاركة في صياغة حلٍ يضمن حقوق الجنوب ويضعه شريكًا حقيقيًا في الأمن أو الاستمرار في لعبة التهميش التي ستقود عاجلاً أم آجلاً إلى مزيد من الصراعات والإضرار بمصالح الكل، الجنوب يعلن أنه صار مفصلاً في المعادلة، ومن يعتقد أنه سيعود إلى مقاعد الهامش مخطئ، السلطات في صنعاء، والشرعية في الرياض، والرعاة في الإقليم، وأصدقاء العالم كلها، مدعوة اليوم إلى اختبار إرادتها.. هل تستمع لنبض الأرض وتمنح الجنوب حقه، أم تظلّ تراهن على ترقيعات لا تصلح لوقف نزيف الوطن؟.
جملة مواقف كبرى طرحها رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي اللواء عيدروس الزبيدي في مشاركته ضمن أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة 2025 تناقلتها الدوائر السياسية في الشرق الأوسط والعالم، ورقة المقايضة ليست مجانية وكما أن الجنوب يطرح التطبيع مع تل أبيب فهو سبق أن طرح التطبيع مع صنعاء التي غدرت به في 1994 وأعادت الغزو في 2014 و2015، برغم كل الدماء والوجع إلا أن عدن تعيش الواقع وتعرف أنها لن تعيش في سلام دون تطبيع مع خناجر صنعاء وحتى أفاعيها السامة.