عندما تثأر مصر لدورها وتاريخها
من أرض مصر، عاد إلى فلسطينيي غزة الأمل في حياة آمنة مستقرة عندما تم الإعلان رسمياً عن اتفاق وقف إطلاق النار في القطاع بعد عامين من النار والدمار والموت والخراب.
قالها الفلسطيني البسيط الذي لم يتلوث بشعارات الإيديولوجيا الخائبة ولا بحسابات السياسة والمصالح الزائفة، وأكد عليها كل عربي مخلص لعروبته، وكل مسلم صادق في نواياه، وكل إنسان محب للسلام في هذا العالم الفسيح: لقد نجحت مصر في القيام بدورها، وفي أداء رسالتها، وفي حمل الأمانة إلى آخر لحظات الصبر والمواجهة.
يدرك الجميع أن مصر هي التي قادت معركة دبلوماسية مصيرية من أجل إقناع العالم ليس فقط بضرورة توقيف الحرب في غزة، ولكن بقطع الطريق أمام خطة التهجير القسري لسكان القطاع من وطنهم، والتي تم إعدادها في الغرف المظلمة بين واشنطن وتل أبيب، وأعلن عنها الرئيس ترامب منذ أشهر، وناقشها الإسرائيليون في الحكومة والكنيست ومراكز الأبحاث والدراسات، وكانت ستتحول إلى واقع تفرضه قوة السلاح والقرار والمال الملوث بدماء الأطفال والنساء وبلعنات الجغرافيا والتاريخ.
◄ مصر قادت معركة دبلوماسية مصيرية أوقفت الحرب في غزة وواجهت خطة التهجير القسري رافضة الإغراءات والضغوط لتؤكد أن إرادتها الوطنية لا تُشترى وأن رسالتها التاريخية لا تُباع
وكما كانت هناك أموال ستصرف على "ريفييرا الشرق الأوسط"، كانت هناك أموال أخرى جاهزة لشراء موقف القاهرة، لكن مصر العظيمة رفضت ذلك وبقوة. من كانوا يعتقدون أنها ستستسلم للإغراءات عادوا إلى ديارهم منكسرين وقد أجبرتهم إرادة المصريين على طأطأة رؤوسهم. كانت كلمات الشاعر الكبير أمل دنقل ترفرف بأجنحة الحسم والحزم والإصرار على المبدأ: "هي أشياء لا تشترى". ومصر أبداً لا تبيع.
يدرك القاصي والداني كم عانت مصر من هجمات الهمج المتطرفين، ومن حملات الجهلة المتحاملين، ومن دجل وأباطيل الإخوة الأعداء والأبناء العاقين، ومن تلك الحروب المعلنة ضدها في السر والعلن، من قبل مضللي وسائل الإعلام والجيوش الإلكترونية، ومن الضغوط اليومية واللحظية التي تستهدف إقناع القاهرة بالتنازل عن ثوابتها الوطنية والقومية والدينية والحضارية.
لكن مصر، كما كانت أول من فسّر معنى الضمير للإنسانية، كانت تؤكد على الدوام أن نظرتها لما يحدث حولها تتجاوز بكثير حالة الانفعال التي قد يقع فيها البعض، وهي ليست مرتبطة بمشاعر حب أو كراهية، ولا بمحاولات اقتناص الفرصة للتشفي من هذا أو ذاك، ولا هي مناسبة لتصفية الحسابات السياسية أو الإيديولوجية. مصر أكبر من ذلك. وقادة حماس الذين طالما سعوا إلى استهداف مصر ونظامها وقيادتها وقواتها المسلحة، وعملوا على تجييش العرب والمسلمين ضدها، وجدوها تستقبلهم وتتيح لهم فرصة التحرك فوق الأرض وتحت الشمس دون خوف من استهداف غادر. لقد دخلوا مصر آمنين ولن يخرجوا منها إلا آمنين.
وقادة حماس قد يكونون غافلين عن الحقيقة التي يحاول الكثيرون المرور عليها مرور الكرام، وهي أن عيون مصر وآذانها هي التي أنقذتهم في آخر لحظة من الهجوم على مقر اجتماعهم في الدوحة، وهي التي فتحت أمامهم أبواب الضوء لمغادرة النفق.
كثيراً ما واجهت مصر بصبرها المعتاد تلك الاتهامات التي يهدف من ورائها أصحابها إلى تبرير فشلهم ورفع العتب عن حاضنيهم ومموليهم، أو إلى التحريض ضد الدولة وقيادتها في محاولة جديدة لإحداث الفوضى التي قد يستغلها الخونة والعملاء والمتطرفون من إخوان الشيطان لتنفيذ مشروعهم التخريبي رغم كل حلقات البؤس من مسلسل الخراب الذي كتبوا قصته وحواره وتركوا للطامعين الإقليميين والدوليين مهمة إعداد السيناريو.
تلك مصر التي هاجموا سفاراتها، وتلك مصر التي زعموا أنها تحول دون وصول المساعدات إلى سكان غزة، وهم يعلمون أن المعبر في جانبه الفلسطيني تحت سيطرة العدو. تلك مصر التي كانوا يمعنون في استفزازهم فقط من أجل توريطها في حرب بالوكالة طمعاً في إضعاف جيشها وإحراج قيادتها. تلك مصر التي قادوا ضدها أوسع وأشرس وأوقح حملة دعائية معادية زاعمين أنها تقف في صف الأعداء، وهم يعلمون جيداً أنهم كاذبون، ولكن الكذب في عقيدتهم سلاح حلله الدين وتبرره الأطماع والمصالح.
◄ مصر أثبتت عظمتها وصلابتها وجدارتها بموقعها وتاريخها صابرة في شموخ مقتدرة في تواضع متجاوزة للصغائر تعمل أكثر مما تتكلم وتفي بأكثر مما تعد مؤثرة في محيطها والعالم
لقد أثبتت مصر عظمتها، وقوتها، وصلابتها، وجدارتها بتاريخها العظيم وموقعها الاستثنائي. أكدت أنها الصابرة في شموخ، والمقتدرة في تواضع، والمتجاوزة على الصغائر. تعمل أكثر مما تتكلم، وتفي بأكثر مما تعد. ترتفع فوق صخرة الزمن بقبضة التحدي، كذلك النسر المتوسط علمها. تتسع على الجغرافيا وتمضي من فوق حدودها لتؤثر في محيطها والعالم.
كل من يحاول التعدي على مصر سيكتشف عجزه وفشله وخيبته، وسيدرك أنه أصغر بكثير من كعب حذاء الجندي المصري المرابط على الحدود، ومن حبة العرق المتوهجة بحرارة الشمس على جبين الفلاح الفصيح القادم من زمن أجداده الخالدين، بذلك العنفوان الذي لا يضاهى، وبروح ذلك الانتماء الخالد إلى عاجني طين البدايات ومالكي مفاتيح نهايات كل شيء، وبتلك العقيدة الوطنية التي تختزل كل عقائد الأرض والسماء التي ما كانت لتكون لولا أن استلهمها المصريون من أسرار عبقريتهم وتدفق النيل بجلالة الخصوبة الباعثة للحياة والقاهرة للفناء.
لقد ثأرت مصر، بقصد أو بدون قصد، لتاريخها العظيم الخالد ولدورها المحوري الرائد، وأعطت الدرس البليغ الذي كان الكثيرون في حاجة إليه، وهي أن الكبير كبير، وأن القوي هو القوي بحكمته وصبره وقدرته على العمل في صمت وتحمل المصاعب في حينها إلى حين تجاوزها بالقدرة على التحدي والارتفاع فوق الصغائر. عظمة مصر دائماً في أن تكون وفية لإرثها وعراقتها وموقعها ورسالتها.