عبدالرحيم كمال لـ"العرب": لعبة الفن إخراج الأسئلة في رواية أو مسلسل أو فيلم

كيف يمكن السير في طريقي الأدب والدراما معا.
السبت 2025/08/09
المسافة بين المقروء والمرئي ليست بسيطة

بين النص المكتوب وتحويله إلى صورة مسافة دقيقة تتطلب كتابة أخرى من نوع خاص ورؤية إخراجية تحيط بالمكتوب. فالدراما والسينما والمسرح ليست أدبا صرفا، بل تنهل منه لتقدم خطابها الخاص، وهذا ما يعيه جيدا من يجمع بين كتابة السيناريو والأدب على غرار المصري عبدالرحيم كمال، الذي كان لـ"العرب" معه هذا الحوار.

القاهرة - للكاتب المصري الراحل أسامة أنور عكاشة مقولتان، في توقيتين مختلفين، الأولى في بداية حياته عندما اتجه إلى الدراما التلفزيونية بعد تجربة قصيرة في الأدب، وذكر فيها أن جمهور الأدب محدود، “وأننا نحن الكُتاب نقرأ لبعضنا البعض فقط”، والثانية بعد رحلته الطويلة في الدراما عندما التقى الأديب خيري شلبي فقال له “خذ كل أعمالي التلفزيونية واعطني رواية واحدة مما كتبت”.

الكاتب المصري عبدالرحيم كمال، أديب وسيناريست، له أعمال تلفزيونية كثيرة، آخرها مسلسلا “الحشاشين” و”قهوة المحطة”، وعاد إلى كتابة الأدب، فأصدر روايات منها “أبناء حورة” التي وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب، و”بواب الحانة”، و”موت العالم”، ومسرحية “صاحب الوردة”، وكتابا “ظل ممدود” و”منطق الظل” في الصوفية.

تسأل “العرب” كمال عن مقولتي عكاشة، وأين يقف بينهما في رحلته الشخصية بين الدراما التلفزيونية والأدب، فيؤكد أن المسافة بين المقروء والمرئي ليست بسيطة، وأنه بدأ بالأدب في مجال القصة القصيرة ثم انتقل للرواية، وله 12 كتابا يفخر بها، وما زال يسعى في هذا المجال الذي يهواه، معتبرًا أنه الأصعب، لكن الإنسان قد يلتقي على الطريق أساتذة يدلونه على أشياء بداخله لا يستطيع فهمها.

حنين إلى الأدب

رغم نجاحاته في كتابة السيناريو فإن كمال بدأ بكتابة القصة القصيرة ثم انتقل للرواية ومازال يكتب في الأدب

التقى عبدالرحيم كمال بالفنان نور الشريف الذي طلب منه كتابة حوار في مشهد ما على سبيل التجربة، ففعل، لكنه وجد الشريف بعدها يقول له إن الحوار بديع لكن به عيبا، هو أنه حوار أدبي مكثف، لأن الحوار للتلفزيون لا بد أن يكون بسيطًا قريبًا من الناس، واللغة الشعرية في ما كتب عالية والصياغة جميلة لكن مهم تخفيف الحوار نوعًا ما.

يقول كمال لـ”العرب” إن جملة نور الشريف هذه قادته منذ عام 1995 إلى رحلته، فكان مسلسل “الرحايا” و”شيخ العرب همام” وما تلاهما من أعمال لاقت هوى لدى الناس، إلا أنه ظل يرجع أحيانا للقصة القصيرة على استحياء، حتى شعر عام 2012 بحنين جارف إلى الكتابة الأدبية وكأنه مقصر تجاه أحد أولاده، فبدأ كتابة رواية “بواب الحانة”، وعاد إلى لغته الأدبية القديمة التي تركها في الدراما بعد مقولة الشريف، وكأنه يتعلم السباحة من جديد.

عاد الكاتب المصري إلى الأدب أكثر حرصا وخوفا، مبررا “لأنني أتعامل مع نوع آخر يستلزم احترامًا له وليس ككاتب يتعامل كأنه شاطر جدا يستطيع عمل كل شيء، لأن هذا فخ كبير، ولذلك انتبهت”.

يسعى كمال منذ صدور رواية “بواب الحانة” في 2015 إلى الموازنة، بمعنى أنه يمكن ألا يكتب للتلفزيون لسنة أو سنتين، فيصدر عملا أدبيا أو كتابا عندئذ، ما يشبعه للغاية برغم أن ذلك أقل كثيرًا في العائد المادي من التلفزيون، وأقل جمهورًا لأن جمهور الأدب نوعي، لكنه يشعر بمتعة كبيرة عندما يقرأ عشرون شخصًا عمله بشكل حقيقي ويصلهم العمل.

الروائي يمكنه أن يقوم بتحويل روايته بنفسه إلى عمل مرئي إذا كان يجيد فن السيناريو المختلف عن الأدب

شكَّل ذلك جزءًا من الحل، للسير في طريقي الأدب والدراما معًا، وكان الجزء الآخر قبلها أن يحافظ على أن تكون قصصه التلفزيونية ذات أصل أدبي، فيتعامل باعتبار أن العمل الدرامي رواية تلفزيونية قدر الإمكان.

يعتبر مسلسل “الحشاشين” روايته الشخصية عن حقيقة تاريخية، ما أدى إلى بعض الاختلافات في آراء الناس، “لكنها روايتي أنا عن حسن الصباح”، كما يقول، وسبق أن لجأ إلى مسرحية “الملك لير” ليصنع منها مسلسل “دهشة”، ومسلسل “ونوس” الذي قصد ألا توضع مصادره على التتر لأنها تعددت، فهناك “فاوست” لجوتة، والشيطان في القرآن والإنجيل والتوراة، وفي التراث الإنساني كله، فأراد أن يقدم “الشيطان المصري”.

يبتسم عبدالرحيم كمال قائلا “هكذا فأنا بين بين.. من الأدب للدراما.. ثم العودة من الدراما للأدب.. ثم التوازن إلى حد ما”.

يرى الكاتب المصري أنه يمكن للروائي أن يقوم بتحويل روايته بنفسه إلى عمل مرئي إذا كان يجيد فن السيناريو، معتبرًا أن “هذا جائز.. وكثيرون أجادوا عمل ذلك” لكنه يفضل العكس، بأن تقرأ عين أخرى روايته، لأن السيناريو يصنع عملا مختلفًا ويكون قاسيًا على الرواية أيضًا، فالسيناريو يكاد يكون هدمًا للرواية وإعادة بناء لها من روحها.. “وأنا لا تهون عليَّ روايتي”.

تعريب الحداثة

ا

تحمس الكاتب ناصر عبدالرحمن لرواية “بواب الحانة”، وأخبر عبدالرحيم كمال بأنه يريد تحويلها إلى سيناريو، وبدأ العمل بالفعل حاليا، ما أسعد صاحب الرواية لأن عبدالرحمن في نظره سيناريست مخضرم كبير له باع، وهو صديقه، فأن يقدم العمل برؤيته ومنظوره ثم تأتي عين المخرج أيضًا بعد ذلك؛ هذا كله يعد اختبارًا للرواية من أكثر من منظور وعين، ويمنح الرواية عمرًا أطول، بتجديد التأويل والرؤى حولها. وهو يقرأ ما يكتبه ناصر عبدالرحمن ويقول رأيه فيه بشكل محايد كي لا يفسد رؤيته.

تدور رواية “أبناء حورة” في أجواء شبيهة بـ”ألف ليلة وليلة”، وتحوي غرائبيات كشخصيات طيور بأجساد نصف بشرية، وتدخل عوالم مدهشة، بمتعة في السرد دون إغراق في الرمزية على غرار مدارس الحداثة كالواقعية السحرية وتيار الوعي وغيرهما، ما يمكن اعتباره محاولة لتعريب هذه المدارس من خلال الرواية.

يقول عبدالرحيم كمال لـ”العرب”، “هي رواية في مديح الحكي العربي. وأردت تركها لابنتيَّ لأقول لهما هذا ما أخذته من الحكي العربي وهذا ما أنتجته له. وجاءت في لحظة فارقة ومفصلية هي وقت وباء كورونا، عندما كان الناس يتحدثون عن فناء العالم، وجلست بمفردي بعد أن ذهبت زوجتي وابنتاي إلى حماتي، وكان يأتي طير إلى شرفة منزلي صباحًا، وعندما هممت بالاقتراب منه طار، فبدأت أكتب محمومًا كأن هذا العمل ارتبط بحياتي، التي لا أعرف متى تنتهي أو أنتهي من الكتابة”.

يحب كمال رواية “أبناء حورة” لأنها ترتبط بمخزون داخلي لديه وبرؤيته لموقع الحكاية في الأدب، في وقت يشهد دهسًا للحكاية، كما يقول، وكأن الحكي عيب أو شيء قديم.. كأنك تقتل أحد أجدادك.. فهل هذا مستساغ؟ للحكي أهله، لكن البعض يفتقد القدرة عليه فليجأ إلى سبه باسم الحداثة، وكما ارتبطت الحداثة بأنها ضد الحكاية فهناك قصيدة النثر، قد يكتبها أدونيس فتكون بديعة وحقيقية لأنه مر بكل التجارب، وهناك من يكتبها لأنه غير قادر على الوزن الشعري أو الإيقاع فتجده يهاجم هذه الأشياء.

ويحسم قائلا “هناك فرق بين من عبَر ومن وقف على الساحل يسب الآخرين.. أنا أحب الحكاية وأحد خدامها وحراسها وأراها شيئا جميلا عندنا كالشمس والقمر والنخل والتاريخ.. الحكاية جميلة”.

سلوك المحبة

ا

يصف عبدالرحيم كمال الصوفية التي يحبها وينتهجها وتظهر دوما في شخصياته وأعماله الدرامية والأدبية، بأنها “فكر المحبة”. تسأله “العرب” عن رؤيته حول كيفية تحويل هذا الفكر إلى سلوك، حقوق وواجبات ونظم، في ظل ما نحياه حاليا بمنطقتنا والعالم من فتن وحروب وتشرذم ودم.

يقول إن الظن الشائع هو أن العيش بفكر وسلوك المحبة يعني الخروج عن الواقع والانهزامية والاستسلام، لكن ليس هذا المقصود، فليس هناك في الوجود محبة لا تنعكس على سلوك صاحبها في كل شيء. وما يحدث هو حرب محبة تجاه الكراهية، وهذه حرب أزلية، وهناك ظاهر وباطن في الأمر، كما تقول الصوفية.

ويفسر قائلا “لا تظن مثلا أن الناس المطحونة في غزة أو الأطفال الذين تُزهق أرواحهم منهزمون في المطلق. هم مقهورون ومظلومون ويبدو أن الغاشم هو المسيطر لكن هذا في عجلة التاريخ والرؤية الشاملة لا يعني أنهم منهزمون، لأن هناك أرحامًا ستلد، وهناك ذكريات باقية، وأناس لم تُمحَ من الوجود، لعل هذا يؤكد نصرهم القادم طالما تشبثوا بالمحبة لأنها ستجعل سيفهم أقوى”.

لم يغضب كمال أو يرفض بعض التعليقات السلبية للمشاهدين على شخصية “عم حسن” التي أداها الفنان الراحل نبيل الحلفاوي في مسلسل “القاهرة كابول”، واتهامه بالمبالغة في ما يُعرف بـ”سلوك المحبة”، وإطلاق الحِكَم بشكل ممل، إنما رأى أن الناس “معهم الحق بنسبة مئة في المئة”.

وعلل ذلك بأسباب تقنية، إذ تم حذف سبعين مشهدًا لإحدى الشخصيات المهمة في المسلسل لإحداث تعديل درامي قبل العرض بفترة قصيرة، ما أدى إلى ظهور مشكلة حقيقية في المسلسل، إذ زادت نسبة وجود شخصية “عم حسن” بشكل أكبر من المطلوب.

ويضيف لـ”العرب” أن “أسوأ شيء في الدنيا أن ينصرف الناس عنك أو يشعرون بالملل منك، ولم أعتد هذا من قبل أو من بعد، فالكاتب مثل الراوي بالربابة، لو انصرف الناس عنه يكون الخطأ عنده هو، لاسيما أن الجمهور لم يخذلني، ومع احترامي لكل الشعوب فلكل شعب حضارته إلا أنه ليس هناك شعب من المحيط للخليج لديه إرث يجعل الطفل ذا الخمس سنوات كأن لديه خمسة آلاف سنة، فالرهان على الصعب والمعقد وما يخص الروح والقلب يكسب، أما الفذلكة الذهنية مع الجمهور المصري خصوصا فإنها تخسر”.

ناقش كمال فكرة السكْر في مسلسل “الخواجة عبدالقادر” ورواية “بواب الحانة”، والفارق بين السكْر المادي المرتبط بالخمر والسكْر الروحي. ويشرح أن السكْر في معجم المتصوفة أحد تجليات المحبة، والدخول في حال غير مرتبطة بالمعنى الظاهر للخمر، فالمفتاح في “بواب الحانة” فكرة الظاهر والباطن أكثر من السكر، الذي كان مجرد ثيمة ووسيلة فقط.

ويضيف ظاهر الأمر أن المكان في الرواية حانة، وباطن الأمر أنها الدنيا، والبطل لا يملك الحل، لأنه ليس إلها. “فكرة الظاهر والباطن تقلقني شخصيا، فنحن نكتب عما يقلقنا وليس لإسعاد الناس”.

مقعد الرقيب

كاتب السيناريو الذي يراهن على الصعب والمعقد وما يخص الروح والقلب يكسب، أما الفذلكة الذهنية فإنها تخسر
كاتب السيناريو الذي يراهن على الصعب والمعقد وما يخص الروح والقلب يكسب، أما الفذلكة الذهنية فإنها تخسر

تسأله “العرب” عما إذا كان يرى الدنيا كحانة، أو العالم كسجن، كما توحي رواية “موت العالم”، فهل الوجود سجن يهفو الإنسان لتحرير روحه منه؟

يصف عبدالرحيم كمال السؤال بأنه جميل، ويصمت ويفكر، ثم يجيب بأن الإنسان في الدنيا معلوماته محدودة للغاية، وكلما ازداد سعيًا في دروب الحضارة والعلم والتكنولوجيا كلما قلت معلوماته عن الحقيقة، بينما تزيد معلوماته عن الأشياء، وتزداد الثقافة بلا عمق، هذه طبيعة العصر، فيتحول النص الكبير إلى منشور على فيسبوك، وتتحول المعاني الكبيرة إلى تغريدات، فهناك تجزيء للأشياء، وشذرات.

ويوافق على وصف ذلك بأنه “تفتيت للمعرفة، والدنيا ليست سجنا ماديا لكنها سجن معنوي، ظُلمة، وأسئلة أكثر من الإجابات، وحق الإنسان أن يسأل كل الأسئلة، وسيحصل على إجابات قليلة، ويكفيه شرفا أن يسأل”.

ويتابع لـ”العرب”، “هذه هي لعبة الفن؛ أن يُخرج هذه الأسئلة في رواية أو فيلم أو مسلسل، ما يطمئن الناس أنهم ليسوا مجانين، إنما هي أسئلة عند الكل، كأن الكتابة أبواب خفية لسجون القراء والمشاهدين، وقد يخرجون فيجدون سجنًا أوسع، لكن الكاتب يكون قد استطاع إخراجهم من الأضيق إلى الأوسع، ولو بمقدار مليمتر”.

ن

خلال عام 2021 أعلن عبدالرحيم كمال عن عمل فني جديد يجهز له حول سيرة الأديب العالمي نجيب محفوظ، يقوم ببطولته الفنان أحمد حلمي، ثم توقف الحديث تمامًا عن العمل دون توضيح الأسباب.

ويكشف لـ”العرب” أنه “حدث شيء غريب، إذ وشى أحدٌ ما للسيدة الفاضلة ابنة نجيب محفوظ بأننا أنهينا كتابة السيناريو على مزاجنا، فذهبت للقائها مع أحمد حلمي، والتقيت بها بمفردي، وأكدت لها أننا لن نسير خطوة واحدة إلا بالتنسيق معها، فهذا نجيب محفوظ، وحياته تمثل جزءًا من تاريخ مصر، فارتضت بذلك وسعدت، ثم عادت لتقول إنها سمعت بأننا قمنا بتغيير أشياء، في حين أنني لم أكتب شيئًا بعد، ولم تعد ترد على اتصالاتنا، وأخذت موقفا شديدا للغاية دون داع رغم أنني لا يمكن أن أفعل هذا”.

يتحدث كمال لـ”العرب” من مقعد الرقيب على المصنفات الفنية في مصر، الموقع الذي يشغله منذ فبراير الماضي، وعادة ما يجنح المبدع إلى الحرية وليس الرقابة. لذا نسأله ما شعوره بالتجربة بعد ستة أشهر من العمل؟

يصف الكاتب المصري الأمر بأنه “اختيار صعب بالطبع”، ومن يراقب أعمالهم زملاء وأحباء له وعلاقته بهم ممتدة، وهي مسؤولية كبيرة لم يعتدها، بينما اعتاد على الحرية، وترتبط بوقت وإجراءات واتصالات مع جهات عدة، ما زال يحاول فهمها ليخرج منها بسلام أو يجد صيغة للنجاة ويكتب.

ولا يعتبر كمال نفسه في هذا الموقع قريبا من السلطة، إنما هو قريبٌ مما أوكل إليه من مسؤولية، يتعامل فيها بميزانين؛ كمواطن مسؤول عما يدخل بيوت الناس أو يدفعون تذكرة لمشاهدته، وكفنان مؤمن بالحرية لأقصى درجة “بنسبة مليار في المئة”.

ويختتم حديثه قائلا “هي ليست ورطة، إنما أنظر إليها من زاوية أن الله أراد لي أن أتولى هذا المنصب في هذا الوقت من عمري، فلا بد أن أتولاه كما ينبغي احترافا وإدراكا للمسؤولية في بلد بحجم مصر بكل تشابكاتها وأطيافها، دون أن أفقد روحي كفنان، وهذا أمر صعب لكنه اختبار جيد، امتدادا لفكرة ما أكتبه عن الظاهر والباطن، والابتلاء والنعمة”.

12