شباب المغرب يحملون شعلة "التبوريدة"

المغرب يسعى إلى الحفاظ على إرثه الثقافي الذي يجمع بين الفروسية والشجاعة.
الجمعة 2025/08/01
إرث يمتد قرونًا

يقبل الشباب في المغرب على تعلم فن "التبوريدة" التراثي، الذي يجمع بين الفروسية والشجاعة والانضباط، في إطار حرص الأجيال الجديدة على مواصلة الحفاظ على هذا الإرث الثقافي ورفع راية الهوية المغربية لتكون بوصلة للشباب.

الرباط - في قلب المهرجانات الشعبية التي تُزيّن قرى ومدن المغرب كل عام، تلمع أعين الزوار مع كل طلقة بندقية تُطلقها فرق الفرسان في عروض “التبوريدة” (نسبة إلى البارود) ، ذلك الفن العريق الذي يجمع بين الشجاعة والانضباط والفن التراثي. من بين هؤلاء الفرسان، يبرز اسم سفيان بنزكري، وهو شاب مغربي في الثالثة والعشرين من عمره، اختار أن يمتهن هذا الفن منذ أكثر من عقد، بعدما تتلمذ على يد والده الذي أورثه حب الفروسية ومعاني الرجولة.

وبدأت علاقة بنزكري بـ”التبوريدة” في سن مبكرة، حيث كان يرافق والده، الذي كان يشغل منصب “مُقدَّم سربة”، أي قائد فرقة الفروسية التقليدية.

ومن خلال المعايشة اليومية والتدريب المستمر، اكتسب سفيان المهارات والخبرة التي مكّنته من خوض المسابقات الوطنية والمشاركة في المهرجانات الثقافية الكبرى.

يقول سفيان “لم يكن والدي فقط من رباني على الفروسية، بل كان أستاذي الحقيقي في الميدان. كان يحرص على تلقيني تفاصيل التبوريدة من الألف إلى الياء: كيفية التعامل مع الفرس، إمساك البندقية، احترام الإيقاع الجماعي، وأساسيات الأمان خلال العروض”.

منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) تدرج الـ"فنتازيا" أو الـ"تبوريدة" على قائمتها للتراث الثقافي غير المادي

وتمثل “التبوريدة” أكثر من مجرد استعراض فروسية. هي فن تراثي مغربي أصيل يعود بجذوره إلى العهود القديمة، حين كانت القبائل تُقيم عروضا جماعية لمحاكاة معارك التحرير والانتصار. خلال العرض، تنطلق خيول الفرسان بسرعة متناسقة لمسافة تقارب 100 متر، قبل أن يطلق الفرسان طلقاتهم النارية بشكل موحّد في لحظة تُجسد روح الفريق والمهارة العالية.

يعود تاريخ تقليد الفروسية هذا إلى القرن الثالث عشر. والفرسان المشاركون متحدون ضمن قوات يطلق عليها اسم “سورباس”.

وأدرجت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) الأربعاء الـ”فنتازيا” أو الـ”تبوريدة” على قائمتها للتراث الثقافي غير المادي. وكان المغرب قدم رسميا في العام 2019 طلبا بهذا الشأن. ويشارك في لوحات عروضها سرب من الفرسان يرتدون لباسا موحدا ويقومون بإطلاق طلقات نارية بشكل جماعي في نهاية عرض كل لوحة. وتعتبر “التبوريدة” تراثا حضاريا فريدا من نوعه في العالم.

ويرتبط هذا الفن بعدة عناصر ثقافية واقتصادية، أبرزها تربية الخيول، وصناعة السروج التقليدية، وحياكة الملابس التراثية، مما يمنح المئات من الحرفيين فرصا لإبراز مهاراتهم ونقلها إلى الأجيال الجديدة.

وفي يوليو الجاري، شارك بنزكري في مهرجان مدينة تيفلت الثقافي (شمال غرب المغرب)، ضمن مسابقة “التبوريدة” التي جمعت أكثر من 50 سربة من مختلف أنحاء البلاد. وقد شهدت الفعالية حضورا جماهيريا كبيرا، حيث احتشد الجمهور لمتابعة العروض، خاصة لحظة الطلقة الموحدة، التي تُعد لحظة الإثارة القصوى في العرض.

يقول سفيان “تفاعل الجمهور هو ما يعطينا الحماس. الطلقة الموحدة لحظة تتطلب تركيزا كبيرا، وكل خطأ قد يُفقد السربة نقاطا في التقييم. لكن حين تنجح الطلقة، تصفق الساحة كلها، ويُكافأ الجهد بالتقدير”.

ويؤكد سعيد الجمعاوي، مقدَّم سربة بإقليم القنيطرة، أن “التبوريدة” ليست مجرد هواية، بل هي نمط حياة تتطلب تدريبا مستمرا وتجهيزات مكلفة وعناية بالخيل. ويضيف “بدأت ركوب الخيل في سن الـ18، واليوم أرافق أبنائي إلى المهرجانات كي يتعرفوا على هذا الإرث، كما فعل والدي معي”.

ويتابع “رغم التكاليف المرتفعة للعناية بالخيل وشراء اللباس التقليدي والسلاح، إلا أن حبنا لهذا التراث يجعلنا نضحي بكل شيء، فبمجرد أن نركب الخيل وننطلق، ننسى كل التعب”.

فن الـ"تبوريدة" يمنح المئات من الحرفيين فرصا لإبراز مهاراتهم ونقلها إلى الأجيال الجديدة

ولا تقتصر المسابقة على الأداء، بل تشمل أيضًا جمالية الفرسان والخيول. وتتمثل المرحلة الأولى من التقييم في تنسيق اللباس التقليدي وتزيين الخيول بالسروج المزخرفة والأحزمة الجلدية والأقمشة المطرّزة، التي تُعد من روائع الصناعة التقليدية المغربية.

وتلعب الأسواق الحرفية دورا مهما في توفير هذه المستلزمات، حيث يتفنّن الصناع التقليديون في إنتاج سروج فاخرة وأزياء أنيقة تحاكي اللباس التاريخي للفرسان.

وبحسب معطيات الشركة الملكية لتشجيع الفرس، يُعد الفرس البربري أقدم سلالة خيول في المغرب، يليه الفرس العربي، أما الفرس العربي – البربري فهو نتاج تهجين بين السلالتين، ويتميّز بقوته وقدرته على التأقلم مع المناخ القاسي.

وقد احتل الفرس مكانة خاصة في الثقافة المغربية، حيث يُستحضر في الأعياد الدينية، والمواسم الشعبية، ومهرجانات “التبوريدة”، التي تُعد مساحة جماعية لاحتفال المغاربة بتاريخهم وشجاعتهم.

ويختتم سفيان بنزكري حديثه برسالة موجهة إلى الشباب المغربي، قائلا “التبوريدة ليست مهنة فقط، إنها حب وانتماء وهوية. علينا أن نحافظ عليها، لا كفلكلور، بل كجزء من ذاكرتنا الجماعية”.

18