زهور الياسمين تذبل مع تغير المناخ في مصر
تواجه قرية شبرا بلولة، التي تنتج النصيب الأوفر من عجينة الياسمين عالميا، أزمة بسبب تغيّر المناخ وارتفاع درجات الحرارة، ما أدى إلى تراجع المحصول وتدهور جودة الزهور. ورغم تصدير الزيوت بأسعار مرتفعة، يحصل المزارعون على أجور زهيدة، ويكافحون للبقاء وسط ظروف اقتصادية صعبة.
شبرا بلولة (مصر) - تخصصت قرية “شبرا بلولة” التابعة لمحافظة الغربية في مصر، منذ عقود في زراعة الياسمين، فهذه القرية التي يصل تعداد سكانها إلى نحو 50 ألف نسمة، تحولت إلى قبلة لصناع العطور من مختلف أنحاء العالم، الذين يحرصون على شراء هذه الزهرة المصرية، للاستفادة من المواد المستخرجة منها لإنتاج أرقى العطور وأغلاها سعرا، حيث تنتج هذه القرية ما يعادل 70 في المئة من عجينة الياسمين على مستوى العالم.
ومنذ سنوات، يقضي وائل السيد ليالي فصل الصيف في قطف أزهار الياسمين التي تصدّرها قريته الواقعة في شمال مصر إلى أهم منتجي العطور في العالم. لكن في الآونة الأخيرة، لم تعد أشجار الياسمين تزهر كالمعتاد وتضاءل عبيرها في الحقول.
ويقول السيد البالغ 45 عاما “السبب هو ارتفاع درجات الحرارة”.
ويعمل السيد في قطف الياسمين منذ نحو عشر سنوات في قرية شبرا بلولة على بعد نحو 100 كيلومتر من القاهرة، وهي قرية هادئة في دلتا النيل بشمال مصر تنتج معظم محصول البلاد من الزهرة العبقة.
فترات الجفاف وتغير المناخ وانتشار الحشرات المرتبطة بارتفاع الحرارة باتت تهدد استمرارية عمل المزارعين وبعضهم غير نشاطه
ولكن مع ارتفاع الحرارة، بحسب السيد، تراجع معدّل تفتح الأزهار حتى انخفض حصاده اليومي خلال السنتين الماضيتين من ستة كيلوغرامات إلى كيلوغرامين أو ثلاثة فقط.
على مدى أجيال، عمل سكان شبرا بلولة في قطف الياسمين الذي أصبح مصدر دخل العديد من العائلات، ولكن فترات الجفاف وتغيّر المناخ وانتشار الحشرات المرتبطة بارتفاع الحرارة باتت تهدّد استمرارية عملهم.
ويمتدّ موسم حصاد الياسمين من يونيو حتى أكتوبر، ويتم القطف خلال ساعات منتصف الليل حتى الفجر، قبل سطوع الشمس، حين يبلغ رحيق الزهرة ذروته.
تقول إيمان مهنّا “نحن نجمع الياسمين منذ الطفولة، ويبدأ الجني من منتصف الليل وحتى الثامنة أو التاسعة من صباح اليوم التالي… حسب الرزق”.
وتوضح “جمع الياسمين مهمة تحتاج إلى تركيز شديد. نجمع الزهور المتفتحة أما المغلقة فتترك لليوم التالي”.
ومع تراجع المحصول، بات الكثيرون يتركون قطف الزهور والاتجاه إلى أعمال أخرى، فيما يضطر الباقون إلى العمل لساعات إضافية، بما في ذلك أطفال يضطرون إلى العمل طوال ساعات الليل.
ويقول السيد إنه اضطر هذا الصيف إلى إشراك زوجته وطفليه (عشرة وتسعة أعوام) في العمل معه في قطف الياسمين في حقلهم الصغير.
بحسب مصنع أحمد فخري وشركاه، أكبر مصنعي زيوت ومركزات الياسمين في مصر، كانت مصر تنتج نحو نصف إنتاج العالم من زهور الياسمين وتصدّرها مقابل الملايين من الدولارات لأهم مصنعي العطور في العالم.
في سبيعينات القرن الماضي، كانت مصر تنتج 11 طنا من مركّز الياسمين سنويا، بحسب المؤسسة الدولية لتجارة العطور والزيوت العطرية.
اليوم، وفقا لأحمد فخري وشركاه، تنتج مصر 6.5 طن فقط.
ويقول علي عمارة البالغ 78 عاما والذي يعمل في قطف الياسمين منذ أن كان في الثانية عشرة “الحرارة كانت دائما مرتفعة في الصيف، ولكن ليس مثل الآن”.
وبعد أن كان محمد بسيوني (56 عاما) وأولاده الأربعة يحصدون قرابة 15 كيلوغراما من الياسمين يوميا، أصبحوا يحصدون سبعة كيلوغرامات فقط وبالكاد يتمكنون من ملء سلالهم.
ويوضح الباحث في المركز الهولندي للمناخ والطاقة كريم الجندي لوكالة فرانس برس أن “درجات الحرارة المرتفعة يمكن أن تؤدي إلى تعطيل عملية الإزهار وإضعاف تركيز الزيت وإحداث إجهاد يقلّل من المحصول”.
ووجد تقرير للوكالة الدولية للطاقة أن درجات الحرارة في مصر تشهد ارتفاعا بمعدل 0.38 درجة مئوية كل عشر سنوات، وهو أعلى من المعدّل العالمي.
وتؤثر الحرارة المرتفعة على “جودة الزهور، وبالتالي على جودة الزيت العطري المستخلص منها”، بحسب بدر عاطف، مدير مصنع أحمد فخري وشركاه.
وبسبب ارتفاع الحرارة، تنتشر حشرات مثل سوس العنكبوت وديدان الأوراق، ما يؤدي إلى تفاقم الضغوط.
ويؤكد ألكسندر ليفيت، الرئيس التنفيذي لإحدى دور العطور في غراس – عاصمة العطور الفرنسية – أن الصناعة تواجه بالفعل تداعيات تغيّر المناخ.
ويقول لفرانس برس “تعاني العشرات من المكوّنات الطبيعية من تغيّر المناخ”، موضحا أن مصادر جديدة للمنتجات بدأت في الظهور لمواجهة التحديات.
تعتبر منطقة دلتا النيل تحديدا أكثر هشاشة في مواجهة تغيرات المناخ، بسبب ارتفاع منسوب مياه البحر المتوسط وتأثيره على ملوحة التربة، ما يؤثر سلبا على أشجار الياسمين.
ويحذّر الباحث في علم الاجتماع الريفي صقر النور من أن عاملي قرية شبرا بلولة “تُركوا في مواجهة هذه المنظومة وحدهم”.
وتشتري العلامات التجارية العالمية الكيلوغرام الواحد من زيت الياسمين المستخلص بنحو 6000 دولار أميركي، فيما يحصل المزارعون المصريون على 105 جنيهات مصرية (دولاران) فقط للكيلوغرام.
ويكفي طن زهور الياسمين لإنتاج أقل من ثلاثة كيلوغرامات من المستخلص المركّز، ما يكفي لحوالي 100 زجاجة عطر.
في الوقت ذاته، فقدت العملة المصرية أكثر من ثلثي قيمتها منذ عام 2022، ما تسبّب في ارتفاع حاد في الأسعار وترك عائلات مثل عائلة سيد تكافح من أجل البقاء.
ويتساءل سيد مستنكرا “ماذا يمكن أن تفعل المئة جنيه؟”.
في يونيو الماضي، نظّم جامعو الزهور إضرابا نادرا مطالبين بزيادة أجرهم إلى 150 جنيها مصريا للكيلو، ولكن بعد أن استقرت شركات استخلاص الزيوت العطرية على أسعار الموسم، وفي ظل ضعف الرقابة الحكومية، لم يحصل عمال قطف الزهور سوى على زيادة قدرها 10 جنيهات (0.20 دولار).
ويشهد دخل المزارعين والعاملين في الحقول تراجعا سنويا، بينما يهدد ارتفاع درجة حرارة الأرض سبل عيش المجتمع بأكمله.
ويقول الجندي “قد تفقد قرى كهذه قدرتها على الاستمرار تماما”.