طقس سنوي يعيد ضبط العلاقة مع الوقت البريطاني
تتوقف ساعة بيغ بن مرتين سنويًا فقط، عند تبديل التوقيت الصيفي والشتوي، في عملية دقيقة تشمل إطفاء الأضواء وضبط العقارب يدويًا. يستغل فريق الصيانة هذا التوقف لإجراء أعمال فنية دقيقة، ويُعد الحدث طقسًا سنويًا يعكس دقة الساعة التاريخية التي تعمل منذ 160 عامًا، وتُفحص ثلاث مرات أسبوعيًا لضمان استمرارها.
لندن ـ في قلب العاصمة البريطانية لندن، وعلى ضفاف نهر التايمز، تقف ساعة بيغ بن شامخة منذ عام 1859، ترمز إلى الدقة والانضباط، وتُعد من أبرز المعالم التاريخية في المملكة المتحدة. لكن في ليل السبت إلى الأحد من كل عام، يحدث ما يشبه الطقس السنوي الثابت: تتوقف عقارب الساعة مؤقتًا، في حدث نادر لا يتكرر إلا مرتين سنويًا، عند الانتقال إلى التوقيت الشتوي أو الصيفي.
إيان ويستوورث، الفني الستيني المسؤول عن صيانة ساعات قصر وستمنستر منذ أكثر من عقدين، يستعد في هذا الوقت من العام لتلقي سيل من الرسائل الإلكترونية من سكان لندن، بعضهم غاضب، وبعضهم فضولي، يسأل عن سبب توقف الساعة الأشهر في البلاد. يوضح ويستوورث أن “المرتين الوحيدتين اللتين يمكن فيهما إيقاف الساعة هما الانتقال إلى التوقيت الشتوي وبدء العمل بالتوقيت الصيفي في الربيع”، مؤكدًا أن العملية تُنفذ بدقة متناهية، تبدأ من الساعة الرابعة عصر السبت وحتى الثانية صباح الأحد.
وخلال هذه الفترة، تُوقف الساعة يدويًا، وتُطفأ أضواء قرصها، في إشارة واضحة للجمهور أن الوقت المعروض ليس دقيقًا. ويُعد هذا التوقف فرصة نادرة لفريق الصيانة لإجراء أعمال فنية دقيقة، تشمل تنظيف الآلية، فحص الأجزاء، واستبدال أي قطعة تحتاج إلى تجديد.
في لحظة نادرة، تتوقف بيغ بن عن الدق، لا لعطلٍ بل لتبديل التوقيت فالزمن يُعاد ضبطه يدويًا في لندن
وفي أعلى برج الساعة، تقع “غرفة التشغيل”، حيث تتم أهم خطوات تغيير التوقيت. هناك، يعمل ويستوورث وشريكه هيو سميث ضمن فريق مكوّن من أربعة أشخاص، يتولون مهمة دقيقة تتطلب تركيزًا عاليًا. يقول ويستوورث: “نصعد إلى هنا ونوقف الساعة الكبيرة، ثم نطفئ أضواء قرص الساعة ليعلم الجميع في الخارج أن الساعة لا تشير إلى الوقت الصحيح”.
وبعد الانتهاء من أعمال الصيانة، يُعاد ضبط العقارب على منتصف الليل، وتُستأنف دقات الساعة الشهيرة، لكن الأضواء لا تُعاد إلا في الثانية صباحًا، إيذانًا بانتهاء المهمة وعودة الزمن إلى مساره المعتاد.
بيغ بن، التي يبلغ وزنها خمسة أطنان، شُغّلت عام 1859 لتكون الأكثر دقة في العالم، وقد واجهت خلال 160 عامًا من التشغيل المستمر عطلين رئيسيين فقط: الأول بعد افتتاحها بفترة وجيزة، والثاني في 5 أغسطس 1976، حين تصدّر خبر توقفها عناوين الصحف البريطانية، واستغرق إصلاحها تسعة أشهر.
وخلال الحرب العالمية الثانية، توقفت إضاءة قرص الساعة خوفًا من تسهيل الغارات الجوية، لكن أجراسها استمرت في الطنين، لتُحافظ على رمزيتها في زمن الحرب، وتُبقي على نبض الزمن في قلب العاصمة.
لطالما كان العمل في بيغ بن شاقًا، خاصة قبل تركيب المصعد خلال أعمال الترميم الكبرى بين عامي 2017 و2022. كان على الفنيين صعود 334 درجة للوصول إلى غرفة التشغيل، وهو ما يصفه سميث بقوله: “لقد غيّر المصعد حياتي. في ذلك الوقت، عندما كنّا ننسى أي أداة، كنا نضطر للنزول ثم الصعود. كان الأمر صعبًا!”
ورغم توفر المصعد، لا يزال صعود البرج سيرًا على الأقدام نشاطًا مفضلًا للسياح، إذ تُحجز الجولات بالكامل حتى منتصف يناير، ما يعكس الشغف الشعبي بهذا المعلم التاريخي.
و قصر وستمنستر، توجد ورشة عمل مخصصة لتصنيع أي قطع تحتاج إلى الاستبدال في الساعة، نظرًا إلى عدم توافرها في السوق. هذه الورشة تُعد امتدادًا لروح الحرفية التي تميز بيغ بن، حيث يُصنع كل جزء بعناية، ويُركّب يدويًا، في عملية تُحاكي تقاليد الصناعة الدقيقة التي بدأت قبل أكثر من قرن ونصف.
رغم قدم الساعة، فقد استفادت من بعض مظاهر الحداثة، مثل استخدام مصابيح “ليد” لإضاءة قرصها، ما يُوفر طاقة ويُحسن من وضوح الرؤية. لكن جوهر الساعة، وآليتها الميكانيكية، لا يزالان كما كانا منذ تأسيسها، في تجسيد حي للتوازن بين التراث والتكنولوجيا.
ويستوورث، الذي يُجري تدريبات منتظمة لطلاب مهتمين بصيانة الساعات، يُعبّر عن ثقته في مستقبل بيغ بن، قائلاً: “ما دام هناك فريق عمل جيد وراءها، فستتمكن هذه الساعة التي تعود إلى 160 عامًا من العمل لـ160 سنة أخرى”. ويضيف بابتسامة: “لن أكون موجودًا آنذاك، لكنّ أشخاصًا آخرين سيكونون حاضرين”.
هذا الإيمان بالاستمرارية لا ينبع فقط من الحرفية، بل من ارتباط الساعة بالهوية البريطانية، حيث تُعد رمزًا للثبات والدقة، ومصدر فخر وحنين لكل من يعيش في لندن أو يزورها.
تبديل التوقيت، سواء إلى الشتوي أو الصيفي، هو الحدث الوحيد الذي يُوقف عقربَي بيغ بن، في مشهد نادر يُذكّر سكان لندن بأن الزمن، رغم صلابته، يمكن أن يُعاد ضبطه. لكن هذا التوقف لا يُعد خللًا، بل طقسًا سنويًا يُعيد التأكيد على دقة الساعة، ويُمنح فيه الفنيون فرصة للعناية بهذا الكنز الوطني.
ورغم أن البعض يُعبّر عن استيائه من توقف الساعة، فإن الغالبية ترى في هذا الحدث لحظة تأمل، وفرصة للتفكر في قيمة الزمن، وفي الجهد الذي يُبذل للحفاظ على دقته، خاصة في عصر تتسارع فيه الإيقاعات، وتُصبح فيه التكنولوجيا أكثر حضورًا من الآليات التقليدية.
في النهاية، بيغ بن ليست مجرد ساعة، بل هي شاهد على التاريخ، وصوت يرن في ذاكرة الأمة، وعقرب يُشير إلى أكثر من الوقت: يُشير إلى الاستمرارية، والدقة، والهوية. وفي كل مرة تُوقف عقاربها لتبديل التوقيت، تُثبت أن الزمن، مهما بدا جامدًا، يمكن أن يُعاد تشكيله، إذا ما اقترن بالإرادة والمعرفة والاحترام للتاريخ.
ومع كل دقة تُسمع في أرجاء لندن، تُعلن بيغ بن أن الزمن لا يُقاس فقط بالدقائق، بل بالمعاني التي يحملها، وبالقصص التي تُروى في ظله.