خدمات التوصيل: مهنة لا تخلو من مخاطر في العراق
مع انتشار تطبيقات الهواتف الذكية وتوسّع المطاعم والمتاجر الإلكترونية في العراق، انتشرت مهنة "الديليفري" في محافظات كركوك وبغداد وبقية المدن العراقية. وباتت هذه المهنة لا تخلو من مخاطر حيث لا يتمتع عمال التوصيل برواتب قارة أو ضمان صحي، إضافة إلى أن حجم الطلبات وساعات العمل الطويلة يفرضان إرهاقا بدنيا وذهنيا متواصلا، يؤثر سلبا على أدائهم وجودة الخدمة التي يقدمونها.
بغداد - أصبحت خدمات التوصيل عن بُعد جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية للعراقيين. ورغم الدور الحيوي الذي يقوم به هؤلاء العمال في تسهيل حياة المستهلكين، إلا أنهم يواجهون تحديات جسيمة تؤثر على صحتهم وسلامتهم ومستوى معيشتهم.
تبدأ معاناة عمال “الديليفري” منذ انطلاقهم في مهامهم اليومية، حيث يواجهون ضغوطا هائلة للالتزام بالمواعيد النهائية لتسليم الطلبات في أسرع وقت ممكن.
هذه الضغوط، تدفعهم أحيانا إلى القيادة بسرعة أو اتخاذ طرق بديلة محفوفة بالمخاطر، مما يزيد من احتمالية تعرضهم لحوادث السير. إضافة إلى ذلك، يفرض حجم الطلبات وساعات العمل الطويلة إرهاقا بدنيا وذهنيا متواصلا، يؤثر سلبا على أدائهم وجودة الخدمة التي يقدمونها.
حجم الطلبات وساعات العمل الطويلة يفرضان إرهاقا بدنيا وذهنيا متواصلا، يؤثر سلبا على أدائهم وجودة الخدمة التي يقدمونها
يقضي الشاب أحمد كريم (23 عاما)، العامل في مهنة إيصال الطلبات “الديليفري” بكركوك، ما لا يقل عن 10 ساعات يوميا بين المطاعم والشوارع لتحقيق العدد المحدد له من طلبات التوصيل.
غير أنه يعتبر عمله مهددا، لعدم وجود ضمان يحميه أو يغطي نفقات علاجه في حال تعرّض لحادث مروري أثناء عمله المحفوف بمخاطر الشارع.
وقال أحمد في حديث لوكالة أنباء خاصة، “عندما بدأت العمل في هذا المجال قبل سنتين، لم أكن أجد فرصة عمل ثابتة بعد تخرجي من المعهد، لكن الديليفري وفّر لي دخلا يوميا أستطيع من خلاله إعانة أسرتي”.
وأضاف “المشكلة أنني أعمل أكثر من 10 ساعات يوميا دون أي ضمان صحي أو راتب ثابت، فأنا أعتمد فقط على عدد الطلبات التي أوصلها”.
كما يتخوّف أحمد من إمكانية تعرّضه لحادث سير على غرار الكثير من زملائه، ما يعني فقدانه لعمله الحالي مع فقدان أي مكسب مستقبلي له يعوّضه عن العمل.
وتابع “في الشهر الماضي تعرّض زميل لي لحادث سير خطير أثناء توصيل طلب في الليل، وظل لأيام في المستشفى، ولم يكن لديه أي تأمين يغطي تكاليف العلاج”.
ومنذ عام 2017، انتشرت مهنة “الديليفري” في كركوك وبقية مدن العراق، مع انتشار تطبيقات الهواتف الذكية وتوسّع المطاعم والمتاجر الإلكترونية.
وتحوّلت المهنة من عمل هامشي إلى قطاع واسع يشغّل الآلاف من الشباب في مختلف أحياء المدينة وبقية المدن، لكنها ورغم ما توفّره من فرص عمل سريعة، لا تزال تعاني من تحديات كبيرة تجعلها مهنة محفوفة بالمخاطر وغير مستقرة.
وقال عبدالله جابر، وهو مالك أحد المطاعم في كركوك، “إن المطاعم تواجه صعوبة في تنظيم العمل، فالشباب يتركون الوظيفة بسرعة لغياب الاستقرار، وبعضهم يتعرضون لحوادث سير تؤثر على التزاماتهم”.
وأشار جابر إلى أهمية هذه المهنة في إنجاح عمله، مؤكدا أن خدمة التوصيل أصبحت ضرورة لا يمكن لأي مطعم أن يستغني عنها، حيث إن أكثر من نصف مبيعاته تعتمد على الديليفري.
وساهمت البطالة المتزايدة بين الشباب في كركوك، والتي تجاوزت نسبتها في بعض المناطق 30 في المئة وفق تقارير رسمية، في دفع الكثير منهم إلى امتهان “الديليفري” باعتباره وسيلة سريعة للحصول على دخل يومي.
كما شجّع النمو الكبير في المطاعم، والمقاهي، ومتاجر الملابس، والصيدليات على الاعتماد على خدمات التوصيل لتلبية طلبات الزبائن.
ومع دخول تطبيقات مثل “طلبات” و”كريم فود” وبعض المنصات المحلية إلى الخدمة، توسّعت دائرة العمل بشكل أكبر، وأصبح الزبون قادرا على طلب الطعام أو البضائع من هاتفه ليصل إلى باب بيته خلال دقائق.
ومع ارتفاع أجور المواصلات في محافظة بغداد بشكل عام، اتجه السكان إلى خدمات “الديليفري” لشراء معظم حاجياتهم، توفيرا للجهد والمال في التنقل.
ولم تعد خدمة توصيل الطلبات في بغداد مجرد عمل إضافي، بل تحولت إلى مهنة أساسية للآلاف من الشباب، ورغم أنها توفر فرص عمل في ظل ندرة الوظائف، إلا أنها تخفي وراءها عالما من التحديات والمخاطر، حيث يصفها الكثير من العاملين بأنها مذلة بسبب غياب الحقوق والتنظيم.
وقبل ثمانية أشهر، باشر الشاب عبدالرزاق حسين (31 عاما) العمل في خدمة “الديليفري”، وبدأ حسين عمله من الساعة الثامنة صباحا وحتى المساء في توصيل الطلبات المنزلية على دراجته النارية.
وبدأ الشاب نشاطه في هذه المهنة بعد فترة من الزمن قضاها كعامل في أحد مستودعات الجملة للمواد الغذائية، بأجر زهيد يوميا، لكن ساعات العمل الطويلة (12 ساعة) دفعته إلى ترك العمل.
وبحسب حسين، كان العمل في التوصيل جيدا ومريحا في البداية، إلى حد ما، إذا ما قورن مع مهن أخرى، ولا يتطلب جهدا بدنيا عاليا. لكن مع مرور الوقت، تغيرت طبيعة العمل في المجال، إذ بدأت الظروف تسوء مع الارتفاع الكبير في الأسعار، ما جعل أجرته اليومية غير كافية لتلبية احتياجات أسرته.
وخلافا لمصاريف أسرته المكوّنة من أربعة أفراد، يستنزف المنزل الذي يقطنونه بالإيجار ثلث العائدات.
بدوره يختصر علاء محمد، الخمسيني الذي كان يعمل في مجال التوصيل، معاناته بكلمة واحد؛ “مذلة”، هذه الكلمة تعكس إحباطا عميقا بين العاملين في هذا المجال.
ويرى علاء أن العمل كمندوب توصيل يجعله تحت رقابة مستمرة، لا يهتم فيها المديرون إلا بإنجاز المهام، دون أي اعتبار للمشاكل أو الحوادث التي قد يتعرض لها، واصفا الأمر بأنه دكتاتوري للغاية وكأنه استعباد من جانب أصحاب الشركات أو الزبائن.
وقال علاء إن الأجور متدنية، حيث يتقاضى ألفي دينار عراقي فقط على الطلب الواحد، وهو مبلغ لا يغطي تكاليف الوقود وصيانة السيارة، فضلا عن عدم وجود راتب ثابت، أو ضمان صحي، أو تقاعدي.
كما أن طبيعة العمل غير مستقرة، وتتأثر بتقييمات الزبائن وأمزجتهم، مما يدفع الكثيرين إلى المخاطرة لضمان الحصول على عمل. كما أن رفض الزبائن استلام الطلبات أو إعادتها يضع عبئا ماديا على العامل، ما قد يؤدي إلى فصله في حال تراجع عدد الطلبات الذي ينجزه.
مع بداية إطلاق شركات التوصيل في بغداد، رأى عاملون في مهن صعبة أنها فرصة لتغيير نظام عملهم إلى نظام أكثر راحة، وبعوائد مالية مقبولة، لكن الحال تغيرت مع اتساع شعبية هذا التخصص، بحسب ما قاله سجاد حسين العامل في مجال التوصيل.
وأكد الشاب العشريني الذي ترك مدينته الناصرية وجاء إلى بغداد بحثا عن فرصة عمل، أن عمل “الديليفري” يواجه نظرة سلبية من المجتمع، حيث ترفض بعض العائلات عمل أبنائها في هذه المهنة، كما أن بعض العاملين فيها يجدون صعوبة في الزواج أحيانا.
وبالإضافة إلى التحديات الاجتماعية، يشير سجاد إلى أن الحصول على وظيفة في هذا المجال ليس سهلا، إذ يتطلب واسطة أو تدخلا، وهو ما يجعل هذه الفرص محدودة رغم أن القطاع يشهد نموا هائلا.
كما لا وجود لقوانين تنصف العاملين في هذا المجال، فهم مجبرون على العمل دون تأمين ضد المخاطر التي يتعرضون لها، كونهم في أغلب الأوقات يجوبون الشوارع المزدحمة بالسيارات على الدراجات النارية أو الكهربائية.
كما أن احتمالية تعرضهم لحوادث مرورية مرتفعة بطبيعة الحال، كونهم يجوبون الشوارع معظم الوقت.
ولا يرتدي معظم العاملين في مجال توصيل الطلبات الخوذ الواقية للرأس، أو اللباس المخصص لعمال التوصيل لحماية المفاصل، ومناطق أخرى من أجسادهم.
وقد تدفع لامبالاة عدد من الشركات المشغلة لعمال التوصيل بسلامة الأفراد فيها، السائقين إلى شراء معاطف مطرية أو قفازات على حسابهم الشخصي، إذ لا توفر الشركة أي وسائل حماية لهم.
وتشير التقديرات إلى أن هناك أكثر من ألف شركة توصيل تعمل في العراق، بحجم أموال متداولة يصل إلى 11 تريليون دينار عراقي سنويا. لكن غالبية هذه الشركات تعمل خارج الإطار الرسمي والضوابط الحكومية، لتفادي الضرائب والملاحقات القانونية.
وتسعى نقابة عمال المنصات الإلكترونية في العراق، والتي لا تزال قيد التأسيس، إلى تنظيم هذا القطاع وحماية حقوق العاملين.
ويؤكد رئيس لجنتها التحضيرية هادي علي أن النقابة ستطلق حملات لدفع وزارة العمل والشؤون الاجتماعية نحو إصدار قوانين وتشريعات تحمي حقوق عمال التوصيل، وتنشئ قاعدة بيانات خاصة بهم.