حين تصبح العقود الاقتصادية أدوات نفوذ في سوريا غير المستقرة

حقائق الواقع السوري تؤكّد أن الاستثمار في سوريا يواجه معوقات بنيوية عميقة تجعل أي حديث عن استثمارات حقيقية وجذابة أمرًا شبه مستحيل دون بيئة سياسية واقتصادية مستقرة.
الخميس 2025/07/31
واقع هش تحكمه معادلات القوة

للوهلة الأولى، يبدو الحديث عن الاستثمارات في سوريا بأنها بوابة لنسج معادلة قوامها التعافي الاقتصادي والنهضة المعيشية وبداية مسار تمت هندسته بغية النهوض بالواقع السوري بمستوياته كافة. إلا أن غاية القراءات الاقتصادية والسياسية لا تُبنى على الأمنيات، ولا يمكن مقاربتها بناءً على واقع هشّ لا يملك أدوات الاستقرار. وهذا يُعدّ بديهيًا بالنظر إلى عمق التعقيدات التي تشهدها سوريا منذ سقوط نظام الأسد وحتى اليوم. نتيجة لذلك، وفي ظل الفوضى السياسية والأمنية التي تعصف بسوريا، تبدو الاستثمارات “المليارية” مجرد سراب فوق رمال متحركة؛ فكل صفقة تُعلَن، وكل عقد يُوقَّع، يخفي خلفه صراع نفوذ إقليمي ومناورة سياسية أكثر مما يبشّر ببزوغ اقتصاد وطني متعافٍ.

هو واقع هش تحكمه معادلات القوة لا الشفافية، والرمزية لا الجدوى الحقيقية، حيث يظل الاستثمار محكومًا باستمرار حالة اللايقين حول مستقبل سوريا نفسها، ويُعلَّق مصيره على مشهد سياسي متصدّع، وأرضية قانونية مضطربة، وتنافس إقليمي لا ينتهي. وفي ظل هذا التداخل بين رؤوس الأموال ومشاريع النفوذ، يبقى المواطن السوري يتساءل: أيّ استثمار يمكن أن يزدهر فوق حقل ألغام سياسي وأمني؟

حقائق الواقع السوري تؤكّد أن الاستثمار في سوريا يواجه معوقات بنيوية عميقة تجعل أيّ حديث عن استثمارات حقيقية وجذابة أمرًا شبه مستحيل دون بيئة سياسية واقتصادية مستقرة. وبصرف النظر عن توقيع صفقات واتفاقيات بالمليارات من الدولارات مؤخرًا، فإن الكثير من الخبراء متّفقون على أن التحديات الجوهرية، من غياب شبه كامل للأمن القانوني، وهشاشة مؤسسات الدولة، واستمرار مناطق النفوذ المتعددة، وضعف الشفافية، مرورًا بالبنية التحتية المتضررة، وبقاء جزء كبير من الإطار القانوني غير محدَّث، تُعدّ عائقًا أمام استثمارات فعّالة ومنتجة. وربطًا بذلك، فإن الكثير من العقود المُعلَن عنها هي في الأصل ذات طابع رمزي أو سياسي، تهدف فقط إلى إظهار الانفتاح وجذب الانتباه الدولي، أكثر من كونها مشاريع قابلة للتحقّق فعليًا على الأرض، خاصة وسط استمرار التقلبات الأمنية وتأخّر إعادة الإعمار الفعلي.

◄ من دون ظهور دولة سورية واضحة المعالم، وبيئة قانونية مستقرة ومحايدة، ستبقى كل الاستثمارات تقريبًا صورية أو هامشية

في المقابل، فإن السلطات السورية، من خلال الحديث عن الاستثمارات وتوقيع العقود وتنظيم لقاءات استثمارية، تستفيد من كل ذلك سياسيًا. فهذه العقود لا تختصّ بأيّ جانب استثماري بقدر ما هي وسيلة لجذب الاعتراف الدولي أو تأكيد السيطرة الفعلية على عناوين الحدث السوري. بينما المستثمرون “الحقيقيون” ينتظرون وضوح القوانين، وتبديد المخاوف الأمنية، ورفع العقوبات فعليًا وليس فقط على الورق. من هنا، فإن الجو العام للاستثمار شكلي إلى حدّ كبير في ظل الواقع السوري الحالي، ويصعب تخيّل استثمار ناجح ومستدام دون بيئة سياسية واقتصادية مستقرة وشفافة.

في المقابل، فإن حالة الصراع على سوريا تتبدّى واضحة من خلال التنافس التركي – السعودي، والذي يتخذ شكلاً سياسيًا واقتصاديًا مركبًا منذ التحولات الكبرى الأخيرة. هو صراع بصبغة إقليمية يتجاوز فكرة الاستثمار المباشر نحو إعادة تشكيل النفوذ وإعادة تموضع القوى في عموم الإقليم. ضمن ذلك، ثمة نقاط جوهرية تتعلّق بما سبق ويمكن إيجازها بالآتي:

أولاً: تركيا تملك اليد العليا من حيث النفوذ الميداني والعسكري، وعلاقاتها المتجذّرة مع الإدارة السورية الجديدة، وكذلك الشركات العاملة في الشمال السوري تحديدًا، وتسعى لاستغلال ميزة القرب الجغرافي وتعزيز نفوذها عبر مشاريع الإعمار والطاقة وإمدادات البنية التحتية.

ثانيًا: السعودية، بالمقابل، تدفع بثقلها المالي والسياسي عبر العروض الاستثمارية الضخمة، ودعم منتديات الاقتصاد والإعمار، وتهدف من خلال هذه الحزم المالية إلى ما هو أبعد من الاقتصاد، أي وضع الإدارة السورية الجديدة مجددًا ضمن دائرة نفوذ الخليج العربي، وتقويض أيّ مشروع “هيمنة تركية منفردة.”

بهذا المعنى، وربطًا بما سبق، فإن بيئة العمل السورية حتى الآن غير مستقرة سياسيًا واقتصاديًا، ويقرّ المختصّون بأن أيّ مشاريع أو صفقات معلنة هي غالبًا بوابة تنافس سياسي وشكل من أشكال الاعتراف أو اختبار النفوذ، أكثر مما هي فرص استثمارية بالمعنى الحرفي. خاصة أن كلا الطرفين يوظّف هذا الاستثمار كذراع نفوذ سياسي وحجز مقعد في صياغة المستقبل السوري. بينما تأجيل الحلول الأمنية والقانونية الحقيقية يجعل معظم الصفقات “شكلية أو تجريبية” حتى يستقر المشهد فعليًا.

ما تشهده سوريا اليوم هو تنافس حقيقي. هو تنافس سياسي بامتياز، لكن بغطاء اقتصادي. وكل إعلان عن مشاريع كبرى يبقى رهينة الاستقرار السياسي والتفاهمات الإقليمية. وبالتالي، فإنه لا يمكن الحديث عن استثمارات حقيقية في سوريا دون وضوح شكل الدولة النهائي واستقرار الإطار السياسي والقانوني. فالشركات والمموّلون يحتاجون إلى بيئة عمل آمنة ومستقرة، وقوانين واضحة للحماية والتعاقد والربح. وفي هذا التوقيت، فإن معظم المشاريع أو العقود الاستثمارية تبقى في الإطار الشكلي، أو ذات طابع استعراضي سياسي، وتخدم أغراض النفوذ الإقليمي أكثر مما تنبع من جدوى اقتصادية. ففي ظل تنافس تركي – سعودي، وآليات عمل مضطربة، وتغيّر خارطة السيطرة، فإن الغاية من توقيع هذه العقود غالبًا خلقُ مشهد دعائي للاعتراف أو كسب الوقت والتأثير، أكثر من تحقيق مشاريع إنتاجية فعليًا على الأرض.

خلاصة الأمر، يمكن القول إنه من دون ظهور دولة سورية واضحة المعالم، وبيئة قانونية مستقرة ومحايدة، ستبقى كل الاستثمارات تقريبًا صورية أو هامشية. وستتضح هذه النتيجة بجلاء خلال الأشهر الستة القادمة، مع استمرار غياب الشروط المطلوبة لأيّ تدفّق استثماري جاد، خاصة في ظل حالة الفوضى وعدم الاستقرار بمستوياتها السياسية والأمنية.

 

اقرأ أيضا:

           • الدفاع عن الهوية دون تفتيت الوطن.. سوريا مثالًا

8