إعادة هندسة السلام في الشرق الأوسط

التحدي الأكبر يكمن في قبول الفصائل الفلسطينية خاصة حماس بفكرة نزع السلاح إذ ترى فيها تهديدًا مباشرًا لنفوذها ما يجعل المبادرة أمام اختبار حقيقي على الأرض.
الجمعة 2025/10/03
تقلبات سياسية وتجاذبات أمنية لا تنقطع

لطالما كان الشرق الأوسط مسرحًا لتقلبات سياسية وتجاذبات أمنية لا تنقطع. وكما قال المؤرخ البريطاني برنارد لويس: “الصراعات في الشرق الأوسط ليست مجرد نزاعات عابرة، بل تعود لجذور تاريخية وثقافية عميقة بينها وبين الغرب، ويجب فهم السياق الجيوثقافي والسياسي لضمان أي حل سياسي مستدام”. واليوم تبرز في هذه المنطقة تعقيدات سياسية نابعة من شبكة متداخلة من الصراعات الفكرية والمصالح المتنافسة، حيث تتشابك قضايا الأمن القومي والهوية السياسية مع الحركات الفاعلة داخليًا وخارجيًا. وفي قلب هذه القضايا يتربع الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، متداخلًا مع متغيرات إقليمية كبرى تتعلق بالتحالفات القائمة والمحتملة، وآليات الحل السياسي والدبلوماسي. وفي خضم هذا الواقع المشتعل، تبدو أي مبادرات لإعادة ترتيب أوراق السلام بمثابة إشارات استثنائية تستدعي تحليلًا دقيقًا لجدواها ومآلاتها.

في هذا السياق، يكتسب الإعلان المشترك بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أهمية خاصة، إذ يعكس محاولة لإعادة صياغة أطر السلام عبر توسيع دائرة التحالفات واستحداث آليات جديدة لإدارة الأزمات. ويُعد هذا الإعلان لحظة سياسية حاسمة تحمل آمالًا كبيرة مؤطرة بتحديات بالغة لتعزيز السلام. فالمبادرة ليست مجرد إعلان عابر، بل مؤشر على إستراتيجية تهدف إلى إعادة ترتيب المعادلات السياسية والأمنية، خصوصًا فيما يتعلق بتوسيع “الاتفاقات الإبراهيمية” وإدارة ملفي غزة وإيران، وهما محوران يختزلان معظم التوترات العميقة في المنطقة.

تبرز أهمية هذه المبادرة في كونها توسع الاتفاقات الإبراهيمية وتعيد تشكيل التحالفات في الشرق الأوسط. وتمضي نحو إنشاء شبكة تعاون إقليمي جديدة تشمل دولًا عربية وإسلامية، متجاوزة القالب التقليدي للمفاوضات الثنائية التي استمرت لعقود دون تحقيق اختراقات جوهرية. فهي تتخلى عن النمط الثنائي الضيق، لتجعل من السلام قضية إقليمية تتطلب تفاهمات متعددة الأطراف تراعي مصالح وتوازنات مختلفة. وقد كشف فشل المفاوضات الثنائية عن عيوب هذا النمط، خاصة في ظل تعقيدات الصراعات الإقليمية وتداخل المصالح الدولية، ما دعا إلى تأسيس تحالفات أوسع تضم فاعلين قادرين على إدارة التوترات بآليات أكثر مرونة.

السلام المستدام يتطلب مقاربات تتجاوز الحلول الأمنية التقليدية وتشمل بعدًا إنسانيًا يعالج جذور الصراعات ويضمن مشاركة المجتمعات المحلية والفاعلين غير التقليديين

إضافة إلى ذلك، تعكس المبادرة إدراكًا بأن الاستقرار السياسي والأمني لا يمكن تحقيقه بفرض حلول أحادية أو بالقوة وحدها، بل يحتاج إلى اتفاقات تراعي الديناميات الإقليمية المتشابكة والمتغيرة. وهي تسعى إلى خلق توازنات جديدة تضمن مشاركة الفاعلين الإقليميين والدوليين بروح من الشراكة، بما يعيد رسم خريطة التوازنات الجيوسياسية. فبدلًا من نموذج الصراعات التقليدية، تطرح المبادرة منظومة علاقات قائمة على تفاهمات ومصالح متبادلة، في محاولة لتجاوز إخفاقات الماضي وإعادة هندسة النظام الإقليمي باتجاه تحالفات جديدة توفر إطارًا أكثر فاعلية لحل النزاعات.

إسرائيليًا، تعكس موافقة نتنياهو على الخطة خطوة مهمة نحو تحقيق تقدم ملموس في ملف غزة، الذي ظل لعقود بؤرة توتر مستمرة. فالاعتماد التقليدي على الإجراءات العسكرية أو الحصار لم ينجح في إرساء استقرار دائم، بل أدى إلى دورات تصعيد متكررة وتدهور إنساني. ومن هنا، فإن هذه الموافقة تعبر عن توجه عملي نحو البحث عن حلول تراعي الأبعاد السياسية والإنسانية والاجتماعية للصراع، ما يفتح المجال أمام مقاربات أكثر توازنًا وشمولية.

من ناحية أخرى، يؤكد إعلان ترامب عن قرب التوصل إلى اتفاق خاص بقطاع غزة أهمية هذه المبادرة على المستويين الدولي والإقليمي، إذ يوحي بفتح نافذة لإعادة هيكلة إدارة أمن القطاع عبر إشراك فاعلين إقليميين مؤثرين، سواء من الدول العربية أو القوى المحلية. هذا التوجه يعكس إدراكًا متطورًا بأن إدارة الملف الأمني في غزة تستلزم توافقات متعددة الأطراف بدلًا من تركيز السلطة في جهة واحدة، الأمر الذي يعزز فرص الاستقرار ويقي من العودة إلى دائرة العنف.

بهذا المعنى، فإن إشراك فاعلين إقليميين يتيح استثمار رصيد العلاقات والتفاهمات لصالح استدامة الأمن والسلام في القطاع، ويخلق إطارًا قادرًا على التكيف مع التطورات المتسارعة. وهكذا لا يكون الحل مجرد اتفاق تقني أو أمني، بل عملية سياسية تهدف إلى حماية الحقوق، وتعزيز التنمية الاقتصادية، وتحسين الظروف المعيشية للسكان، بما يقلل من احتمالات الانزلاق إلى صراعات جديدة.

أما ربط ملف الرهائن بإنهاء الحرب فلا يقتصر على بعد إنساني وأخلاقي، بل يشكل ورقة ضغط إستراتيجية فعالة داخل ديناميات الصراع. فهذا الربط يخلق حافزًا مباشرًا للقبول بشروط وقف النار والتفاوض على تسوية مستدامة، ويضع على عاتق الفصائل مسؤولية أكبر، محولًا ملف الرهائن من قضية إنسانية إلى نقطة حاسمة تحكمها تداعيات سياسية وعسكرية.

بهذا الشكل، تصبح عملية التفاوض أكثر تعقيدًا وعمقًا، إذ لم تعد مجرد محاولة لإنهاء القتال أو تحقيق تسوية عسكرية، بل شملت بعدًا متعدد الأبعاد يدمج الأمن والسياسة والجانب الإنساني في آن واحد. وهذا يعني أن أي تقدم في ملف الرهائن يتطلب توافقات دقيقة بين الأطراف حول الأولويات والتنازلات، وأن الفشل في جانب واحد سينعكس سلبًا على بقية المحادثات.

يبقى التحدي الأكبر هو التفاوض مع فصائل ذات أجندات متعددة ومعقدة، لا تخضع بالضرورة لمنطق الدولة أو المنظمات الدبلوماسية التقليدية. فحماس، مثلًا، قد تتخذ مواقف متباينة تبعًا للوضع الميداني والضغوط الإقليمية والدولية، وقد تتأرجح بين رفض شروط وقف القتال أو تسهيل إعادة الرهائن، أو استغلال هذه القضايا كورقة مساومة لتحقيق مكاسب. هذه المرونة تزيد من صعوبة بناء الثقة واستدامة الاتفاقات. ومن هنا، يبرز منطق التكامل بين البعد الإنساني والسياسي ـ الأمني في وضع إطار تفاوضي متكامل، يعترف بأن تبادل الرهائن لا ينفصل عن إنهاء الحرب، بل هو جزء من شبكة معقدة من التفاعلات والرهانات المتبادلة.

على المستوى الإقليمي والدولي، تبقى المواقف الإيرانية والتحالفات المتضاربة عاملًا غير مستقر يؤثر مباشرة على المبادرة. فإيران قد تسعى إلى تقويض الجهود أو استغلالها لتعزيز نفوذها

في هذا السياق، تُعد فكرة الهيئة الدولية الإشرافية التي أعلن عنها ترامب من الأفكار المحورية، إذ تمثل محاولة جادة لتجاوز إخفاقات عمليات السلام السابقة. وتكمن أهميتها في توفير آلية رصد وتطبيق فعّالة، تعزز دور الولايات المتحدة كقائد رئيسي في متابعة تنفيذ الاتفاقات، مما يمنح العملية السياسية إطارًا أكثر صرامة ومصداقية. كما أن وضع الولايات المتحدة في مركز القيادة لا يقتصر على دور الوسيط التقليدي، بل يمتد إلى المسؤولية الفعلية في ضمان الالتزام والرقابة، وهو ما يحظى بقبول رسمي من الطرفين الإسرائيلي والعربي.

إلى جانب ذلك، توفر هذه الهيئة منصة للتفاعل بين الأطراف المعنية، وتتيح تبادل المعلومات ومعالجة الأزمات التي قد تظهر أثناء التنفيذ، مما يقلل من فرص الانزلاق إلى التصعيد. وبهذا تتحول الهيئة إلى عنصر ثابت يسهم في ترسيخ الاستقرار عبر ضمان احترام الالتزامات المعلنة ومعالجة الخروقات بشكل مبكر وفعّال.

ورغم التفاؤل، تبرز تحديات جوهرية تهدد إمكانية التنفيذ. فالقدرة على فرض نزع السلاح في غزة ترتبط مباشرة بمدى قبول حماس والفصائل الأخرى، وهي جهات تمتلك قدرات عسكرية وتنظيمية كبيرة، إضافة إلى صراعات داخلية معقدة. هذا الواقع يجعل تحقيق توافق حول نزع السلاح أمرًا بالغ الصعوبة، إذ قد ترفض الفصائل أي إجراءات تُضعف موقعها أو تحد من نفوذها، ما يضع المبادرة أمام اختبار حقيقي.

وعلى المستوى الإقليمي والدولي، تبقى المواقف الإيرانية والتحالفات المتضاربة عاملًا غير مستقر يؤثر مباشرة على المبادرة. فإيران، باعتبارها داعمًا رئيسيًا لبعض الفصائل المسلحة، قد تسعى إلى تقويض الجهود أو استغلالها لتعزيز نفوذها، فيما قد تعرقل التباينات بين الدول الإقليمية والدول الكبرى التنسيق أو تعيق التنفيذ إذا تعارضت المصالح الوطنية.

بناءً على ذلك، يمكن النظر إلى المبادرة كخطوة إستراتيجية لإعادة هندسة النظام الإقليمي عبر أدوات دبلوماسية وأمنية جديدة، تستند إلى تحالفات أوسع وآليات رقابة أكثر صرامة. غير أن نجاحها يبقى مرهونًا بقدرة الأطراف، خاصة الفصائل الفلسطينية، على تقديم تنازلات وتحقيق توازن دقيق بين مصالحها السياسية والأمنية والإنسانية. وهنا تصبح المرحلة القادمة اختبارًا حاسمًا لمدى جدية المبادرة وفعاليتها في تحويل الرؤية إلى واقع ملموس قادر على تغيير قواعد اللعبة السياسية والجيوستراتيجية.

في الخلاصة، يتضح أن السلام المستدام يتطلب مقاربات أكثر شمولية ومرونة، تتجاوز الحلول الأمنية التقليدية لتشمل بعدًا إنسانيًا يعالج جذور الصراعات وآثارها على الشعوب. وهذه المقاربات بحاجة إلى أطر عمل دولية متماسكة تضمن التنفيذ الفعلي للاتفاقات والالتزام الدائم من جميع الأطراف، عبر آليات رقابة فعّالة ووسائل حوكمة شفافة تحول دون الانزلاق مجددًا نحو العنف.

6