"حماس" بين فساد القيادة ومعاناة المقاتلين
في خضم المأساة التي تعصف بقطاع غزة وتآكل مقومات الحياة تحت وطأة الحصار الخانق، تبرز على السطح حقائق موجعة تكشف عن حجم الجرح الداخلي الذي ينخر جسد حركة حماس. وبينما يواجه الشعب الفلسطيني بأكمله آلة الحرب الصهيونية بصبر أسطوري وتضحيات جسام، تدور معركة أخرى في الخفاء، معركة لا تقل ضراوة، عنوانها الفساد والإساءة إلى قيم المقاومة النبيلة.
لم يعد الأمر مقتصرًا على مجرد خلافات سياسية أو تباينات في وجهات النظر، بل تحوّل إلى سلوك مؤسسي ممنهج يقوم على إسكات وترهيب كل صوت يجرؤ على انتقاد القيادة. فالإجراءات الصارمة، التي تصل إلى حد الإيذاء الجسدي ضد المنتقدين للحركة، ليست مجرد ممارسات عابرة، بل هي مؤشر خطير على غياب تام للولاء لقيم الحركة الأساسية التي لطالما تغنّت بها. هذه الممارسات لا تعمّق العداء والانقسام داخل صفوف الحركة فحسب، بل تُظهر أن القادة الذين من المفترض أن يكونوا قدوة، قد استبدلوا مبادئهم بمصالحهم الشخصية.
ما يُروى عن استغلال النفوذ والعلاقات لتحقيق مكاسب شخصية ليس مجرد شائعات، بل شهادات حية تضاف إلى التقارير التي تتحدث عن سوء استغلال موارد الحركة في مقامرات مالية طائشة. وبينما يواجه الشعب الفلسطيني أزمة اقتصادية غير مسبوقة، تُغرق القيادة الحركة في ديون ثقيلة وخسائر فادحة. هذا السلوك لا يُعد فقط إهدارًا للأموال، بل هو خيانة لأمانة الشهداء، وغدر بآمال الملايين الذين وضعوا ثقتهم بهذه القيادة.
النتيجة المأساوية لهذا السلوك تظهر بوضوح في واقع مقاتلي حماس، ففي الوقت الذي يُفترض أن تكون لهم الأولوية يُصبحون هم الضحايا إذ تتأخر رواتبهم أو تختفي تمامًا، ما يجعلهم يتحمّلون وحدهم وطأة العبء الاقتصادي، بينما تُبذّر أموالهم وثمن تضحياتهم في مقامرات لا طائل منها. هذا المشهد يكشف عن فجوة صارخة بين القيادة التي تتصدر المشهد الإعلامي، وبين من يدفعون الثمن الحقيقي على الأرض.
بناء مجتمع فلسطيني قوي وموحّد في الداخل هو أفضل رد على محاولات الاحتلال زعزعة استقراره وتفتيت وحدته. فإعادة الأمل وبناء المستقبل تبدأ من هنا، من تطهير البيت الفلسطيني من الداخل، قبل أن يهدم بالكامل
إن الفساد والاستغلال السافر لأموال حماس ليس مجرد مشكلة مالية، بل هو أزمة أخلاقية وتهديد لوجود الحركة ومستقبلها. فالمقاومة، في جوهرها، ليست مجرّد خيار سياسي، بل هي مبدأ أخلاقي يعتمد على التضحية والزهد والعدالة. وعندما تفقد الحركة هذه المبادئ، وتتحوّل إلى أداة لتحقيق مصالح شخصية، فإنها تفقد شرعيتها تدريجيًا أمام شعبها وأمام العالم.
والصمت على هذه الممارسات، تحت ذريعة “وحدة الصف” أو “عدم إعطاء العدو فرصة،” هو صمت مريب وخاطئ. فالنقد البنّاء والمساءلة هما أساس أيّ كيان صحي، وأيّ حركة تحرر حقيقية يجب أن تتحلى بالشجاعة للنظر في المرآة. فمقاومة الاحتلال لا تعني فقط مواجهة دباباته وطائراته، بل أيضًا مواجهة كل أشكال الظلم والفساد داخليًا.
وفي ظل آخر تطورات الحرب الإسرائيلية الفلسطينية، حيث تتصاعد الدعوات الدولية لوقف إطلاق النار، وتتصاعد معها الآمال بإنهاء هذه الكارثة، يجب أن تكون الأولوية القصوى هي تطهير البيت الداخلي. فكيف يمكن لقضية عادلة أن تُدار من قبل قيادات تتاجر بمعاناة شعبها؟
ما يحدث في غزة اليوم هو أكثر من مجرد حرب مع الاحتلال؛ إنه صراع وجود متعدد الجبهات. فالشعب الذي يواجه الموت والقصف والتجويع من الخارج، يُصاب بخيبة أمل من الداخل، عندما يرى أن التضحيات التي يقدمها تُستغل لمصالح شخصية. فالفساد جريمة أخلاقية في زمن الحرب، والقادة الذين يتاجرون بمعاناة شعبهم يفقدون شرعيتهم، حتى لو رفعوا أعلى شعارات المقاومة.
هذا الواقع يضع الفلسطينيين أمام مفترق طرق خطير: إما أن يفرضوا محاسبة حقيقية على كل من خان الأمانة وسرق حقوقهم، أو يتحولوا إلى مجرد وقود في صراعات لا تنتهي. فالسكوت لم يعد خيارًا، فالشعب الذي يواجه الموت كل يوم، يستحق على الأقل أن يعرف: أين تذهب أمواله؟ ومن يقف وراء جوعه؟ ويستحق قيادة تُقدّم مصلحته فوق كل اعتبار، وتُحارب الفساد كما تُحارب العدو.
بناء مجتمع فلسطيني قوي وموحّد في الداخل هو أفضل رد على محاولات الاحتلال زعزعة استقراره وتفتيت وحدته. فإعادة الأمل وبناء المستقبل تبدأ من هنا، من تطهير البيت الفلسطيني من الداخل، قبل أن يهدم بالكامل.