حماة مدينة تصنع صوتها من النواعير والقلاع

قلعة حماة السورية تُشبه كتابًا مفتوحًا صفحاته من حجر وماء وحروفه من ذاكرة الناس.
الاثنين 2025/10/13
فسيفساء من الذاكرة والهوية

تزهو مدينة حماة السورية بإرثها العريق، حيث تتعانق نواعير العاصي مع قلاعها الحجرية لتروي قصة صمود وهوية متجذرة تحافظ على روحها وتوازن بين التراث والحداثة في الأسواق القديمة والمقاهي المطلة على النهر.

حماة (سوريا) - في قلب سوريا، حيث يلتقي نهر العاصي بأحجار التاريخ، تقف مدينة حماة شامخة كأنها ترفض أن تُنسى، فهي مدينة لا تُعرّف فقط بجغرافيتها، بل بصوتها، ذلك الصوت الذي تصنعه النواعير وهي تدور منذ قرون، كأنها تهمس للزمن “ما زلنا هنا.”

وحماة ليست مجرد مدينة، بل ذاكرة حيّة تتنفس عبر تفاصيلها، بين قلاعها الحجرية التي قاومت الغزاة، ونواعيرها الخشبية التي قاومت الصمت، تتشكل هوية فريدة لا تشبه سواها. هنا لا يُقاس الزمن بالساعات، بل بالدوران المستمر لتلك العجلات العملاقة التي ترفع الماء وتُسقطه، في طقسٍ يومي يشبه الصلاة.

صوت الماء يدور كأنين الذاكرة، والحجر يحرس التاريخ بصمت، حيث تتقاطع الحياة مع الحنين في سردية لا تنتهي

والذي يزور حماة لا يمكنه أن يتجاهل النواعير، تلك العجلات الخشبية الضخمة التي تدور على ضفاف العاصي، وتُصدر أنينًا مائيًا يشبه الغناء الحزين. وكانت النواعير في الماضي وسيلة ريّ عبقرية، واليوم أصبحت رمزًا للمدينة، وصوتًا لا يُخطئه العابرون، فصوتها لا يزعج، بل يُطَمئن، كأن المدينة تقول”أنا بخير، ما دامت نواعيري تدور.”

والنواعير ليست مجرد آلات، بل شواهد على عبقرية الحموي، الذي صنع من الخشب والماء تحفة هندسية تتحدى الزمن. وتعود إلى القرن الثاني عشر، ومع ذلك ما زالت تدور، كأنها ترفض أن تُحال إلى التقاعد. هي ليست فقط وسيلة لنقل الماء، بل وسيلة لنقل الذاكرة، صوتها يربط بين الأجيال، ويمنح المدينة إيقاعًا خاصًا لا يشبه أي مكان آخر.

وإن كان صوت النواعير هو موسيقى المدينة، فإن قلاعها هي صمتها المهيب؛ فقلعة حماة، التي تعلو المدينة من جهة الغرب، ليست مجرد بناء حجري، بل سجل تاريخي محفور في الصخر. وقد مرّت عليها حضارات متعددة؛ من الآراميين إلى الرومان، ومن الأيوبيين إلى المماليك، وكل منهم ترك بصمته على جدرانها.

وفي زوايا القلعة يمكن للزائر أن يشعر بثقل التاريخ، وأن يسمع صدى المعارك، وأن يتخيل الحراس وهم يراقبون الأفق، وهي لا تحكي فقط عن الحروب، بل عن الصمود، عن مدينة لم تنكسر رغم كل ما مرّ بها، هي شاهدة على تقلبات الزمن، وعلى قدرة الإنسان على إعادة البناء بعد كل انهيار.

وبين النواعير والقلعة تمتد المدينة القديمة كأنها سجادة شرقية منسوجة بالحجارة والأزقة، وتتداخل البيوت العتيقة مع الأسواق الشعبية، وتختلط رائحة القهوة برائحة التاريخ في سوق الطويل، وسوق الحدادين، وسوق الذهب، حيث لا تزال الحياة تنبض كما كانت قبل مئات السنين.

وتمتاز البيوت ذات الطراز العربي بأفنيتها الداخلية ونوافذها المزخرفة، تحكي عن ذائقة جمالية راقية، وعن مجتمع كان يعرف كيف يوازن بين الوظيفة والجمال. وفي هذه الأزقة لا يسير المرء فقط، بل يتأمل ويتذكر ويشعر بأنه جزء من سردية أكبر، سردية مدينة لا تزال تكتب نفسها كل يوم.

قلعة حماة ليست مجرد بناء حجري، بل سجل تاريخي محفور في الصخر وقد مرّت عليها حضارات متعددة من الآراميين إلى الرومان ومن الأيوبيين إلى المماليك

ورغم ما شهدته المدينة من أحداث عصفت بها في العقود الأخيرة، فإنها لم تفقد روحها. أهلها، الذين ورثوا النواعير والقلعة والأسواق، ما زالوا يصرّون على الحياة. في المقاهي المطلة على العاصي، يجلس الشباب وهم يتحدثون عن المستقبل، بينما تدور النواعير خلفهم كأنها تراقب الحوار.

وتحاول المدينة اليوم أن تستعيد عافيتها، أن توازن بين الحفاظ على التراث والانفتاح على الحداثة. مشاريع الترميم والفعاليات الثقافية والمهرجانات المحلية، كلها محاولات لإعادة الاعتبار لحماة كوجهة سياحية وثقافية. وهناك وعي متزايد بأهمية الإرث، ليس فقط كرمز للماضي، بل كرافعة للمستقبل.

وما يميز حماة ليس فقط ما تراه العين، بل ما تشعر به الروح، فهي تُشبه كتابًا مفتوحًا، صفحاته من حجر وماء، وحروفه من ذاكرة الناس. كل زاوية فيها تحمل قصة، وكل صوت فيها يحمل معنى. حتى الصمت فيها له نكهة، كأن الجدران تحفظ ما قيل فيها من شعر، وما دار فيها من نقاشات.

ولا يمكن للزائر أن يكون محايدًا؛ فإما أن يقع في حبها أو يظل يتساءل كيف استطاعت مدينة بهذا الحجم أن تحتفظ بكل هذا الإرث، دون أن تتكلّف أو تتصنّع. هي مدينة لا تحاول أن تُبهر، بل تكتفي بأن تكون صادقة، وهذا سرّ جاذبيتها.

12