حرب غزّة كشفت إسرائيل أيضا!
كشفت حرب غزّة حقيقة إيران وتوابعها في “محور المقاومة” بدءا بـ”حزب الله” في لبنان والنظام العلوي في سوريا، وهو نظام سقط بمجرّد رفع الغطاء الإسرائيلي عنه. لكنّها كشفت أيضا إسرائيل على الرغم من كلّ ما ألحقته من هزائم بخصومها في الحروب التي خاضتها منذ السابع من تشرين الأوّل – أكتوبر 2023، يوم شنّت “حماس” هجوم “طوفان الأقصى” مستهدفة مستوطنات في غلاف غزّة.
أظهرت إسرائيل أنّها تعاني من حال مرضية تجعلها عاجزة عن التقدم بأي مشروع سياسي قابل للحياة. بموجب مثل هذا المشروع تكون إسرائيل دولة من دول المنطقة بدل أن تكون دولة معزولة على صعيدي الشرق الأوسط والعالم. صحيح أنّ إسرائيل تستطيع تدمير غزّة والعمل على تهديد الضفّة الغربيّة فضلا عن توسيع احتلالها للجولان، لكن الصحيح أيضا أن الدولة العبرية لا تقدر إيجاد ترجمة لقوتها على أرض الواقع. هذا ما يفسّر التجاذبات التي نشهدها بين حكومة بنيامين نتانياهو من جهة وإدارة دونالد ترامب من جهة أخرى. لا يمكن تضخيم حجم هذه التجاوزات، لكنّه لا يمكن في الوقت ذاته تجاهلها على الرغم من أنّ معظم المحيطين بالرئيس الأميركي من المنحازين للدولة العبريّة وقد دفعوا دائما في اتجاه دعم السياسات المتطرفة لنتنياهو.
حرب غزّة كشفت هشاشة "محور المقاومة" من إيران إلى حزب الله وسوريا كما عرّت إسرائيل التي رغم قوتها العسكرية عجزت عن تقديم مشروع سياسي قابل للحياة في المنطقة
للمرّة الأولى، منذ سنوات عدّة، يمكن الكلام عن سعي أميركي لضبط “بيبي” بغية تثبيت وقف النار في غزّة من جهة والتمهيد لطرح مشروع سلام أميركي يشمل المنطقة كلّها من جهة أخرى. يستند هذا المشروع إلى النقاط العشرين التي طرحها ترامب في زيارته الأخيرة للمنطقة حيث ألقى خطابين الأوّل في الكنيست والآخر في شرم الشيخ.
يمكن الكلام عن تفهّم أميركي، لا أكثر، لأهمّية مراعاة الجانب العربي الذي يدعو إلى قيام دولة فلسطينية، وهو موقف بات يحظى بتأييد أكثرية دولية تتجاوز حدود الـ155 دولة. أكثر من ذلك، لم تخف دول عربيّة نافذة مثل المملكة العربيّة السعوديّة ودولة الإمارات العربيّة المتحدة امتعاضها من محاولات في الكنيست الإسرائيلية لإقرار قانون ضمّ للضفة الغربية. جرى تمرير مشروع القانون في قراءة أولى بأكثرية ضئيلة في الكنيست. سعت الحكومة الإسرائيلية إلى النأي بالنفس عن مشروع القانون المتعلّق بضمّ الضفة. لكنّ ذلك لم يمنع نائب الرئيس الأميركي جي. دي. فانس الذي كان في إسرائيل من اعتبار ذلك تحديا له واصفا تصرفات نواب إسرائيليين ينتمون إلى اليمين بأنّها “سخيفة”.
بات السؤال الآن إلى أي حدّ يمكن ذهاب إدارة ترامب في ضبط رئيس الحكومة الإسرائيليّة الذي حقّق من دون شكّ انتصارات باهرة على خصومه الإقليميين، بمن في ذلك “الجمهوريّة الإسلاميّة” التي هاجمها مباشرة. لكنّ اللافت أن الرئيس الأميركي لا يتوقف عن تذكيره بأن الولايات المتّحدة من أوقف المشروع النووي الإيراني بشنّها لغارات على أربعة مواقع إيرانيّة تعتبر جزءا من المشروع. فعل ترامب ذلك في خطابه أمام الكنيست وراح يردّد مقولة أن بلاده، وليس إسرائيل، من دمّر المشروع الإيراني في المنطقة بما سمح بالتوصّل إلى وقف للنار في غزّة.
الرئيس الأميركي يتفادى مواجهة مباشرة مع نتانياهو ويسعى إلى إقناعه بأن مستقبله السياسي مرتبط بالانتقال من الحرب إلى السياسة
سبق لرؤساء أميركيين أن عملوا على تدجين إسرائيل. كان دوايت إيزنهاور أوّل هؤلاء. أجبر إسرائيل على الانسحاب من سيناء في العام 1956 التي احتلتها بعد مشاركتها مع بريطانيا وفرنسا في العدوان الثلاثي على مصر. كان إيزنهاور حازما. لم يكن الرئيس جورج بوش الأب، الذي كان إلى جانبه وزير خارجيته جيمس بايكر ومستشاره لشؤون الأمن القومي برنت سكوكرفت، أقلّ حزما عندما منع إسرائيل من المشاركة الردّ على العراق في مرحلة ما بعد اجتياح صدّام حسين للكويت صيف العام 1990.
أراد صدّام استفزاز إسرائيل للتغطية على الجريمة التي ارتكبها في حق الكويت وأهلها. لكنّ إدارة بوش الأب منعت حكومة إسرائيل من الردّ كي يبقى الأمر محصورا بالكويت وتحريرها من صدّام. في مرحلة لاحقة أجبرت إدارة بوش الأب حكومة اسحق شامير على قبول استقبال طواقم أميركيّة وصواريخ “باتريوت” في مواجهة أي صواريخ يمكن أن تطلق من العراق في اتجاه الدولة العبريّة… ثم ضغطت ما فيه الكفاية كي تشارك إسرائيل في مؤتمر مدريد للسلام الذي انعقد في العاصمة الإسبانية أواخر تشرين الأوّل – أكتوبر 1991 على أساس القرار 242 الذي يلحظ مبدأ الأرض في مقابل السلام.
ينجح ترامب في تدجين حكومة نتانياهو أم لا؟ لا يمكن الاستخفاف بالفريق الذي يعمل مع الرئيس الأميركي، وهو فريق يمتلك أفراده مصالح متشعبة في المنطقة، خصوصا في دول الخليج العربي. الأمر يتجاوز إسرائيل وغياب المشروع السياسي لدى الحكومة الإسرائيليّة الحاليّة.
في اعتراضه على ضمّ الدولة العبريّة للضفّة الغربيّة، يمتلك الرئيس الأميركي ورقة قويّة جدا في تعاطيه مع حكومة إسرائيليّة مستعدّة لمتابعة حرب غزّة. تبحث الحكومة الإسرائيلية في مرحلة لاحقة عن حرب في لبنان تبرّرها التصرفات غير المسؤولة لـ”حزب الله” ومن خلفه إيران. تشير التصريحات الأخيرة لترامب إلى أن لا قدرة لدى الدولة العبريّة في الذهاب إلى أي حرب من دون السلاح الأميركي. من دون هذا السلاح لا مجال لأي حرب جديدة تشنّ على إيران التي لم تقتنع بعد بخسارتها كلّ الحروب التي افتعلتها على هامش حرب غزّة عبر أدواتها الإقليميّة.
في لعبة التجاذبات مع حكومة نتانياهو، قدمت إدارة ترامب مشروعا سياسيا انطلاقا من وقف النار في غزّة. الأكيد أن الرئيس الأميركي يتفادى مواجهة مباشرة مع نتانياهو ويسعى إلى إقناعه بأن مستقبله السياسي مرتبط بالانتقال من الحرب إلى السياسة. يسعى إلى ذلك على الرغم من أن “بيبي” لا يزال يتصرّف من منطلق أنّه يستطيع أن يفعل ما يشاء في واشنطن!