جيش من خريجي التخصصات الطبية في العراق لا يجد مكانا في سوق العمل

النقابات المهنية تحذر الطلاب من اختيار تخصصات طمعا في المكانة الاجتماعية.
الأحد 2025/08/10
أعداد لا تتناسب مع سوق العمل

تدق نقابات الأطباء والصيادلة العراقية ناقوس الخطر من وقوع الآلاف من خريجي كليات الطب والصيدلة والتخصصات الصحية الأخرى في فخ البطالة خلال السنوات القادمة، نتيجة الأعداد الضخمة التي تختار هذه التخصصات دون قدرة المستشفيات الحكومية على استيعابها.

بغداد - سلطت دعوة نقابات الأطباء والصيادلة العراقية لخريجي الثانوية العامة وأهاليهم للتأني والتفكير قبل اختيار تخصص الطب في الجامعة، الضوء على طريقة اختيار الطلاب لتخصصاتهم العلمية ومدى ملاءمتها لسوق العمل واحتياجات البلاد من الاختصاصات المهنية، خصوصا أن البلاد تملك فائضا من الأطباء في شتى التخصصات.

وقال نقيب أطباء العراق حسنين شبر عبر فيسبوك “نصيحة لخريجي الثانوية.. لا تقرروا الذهاب إلى كلية الطب قبل دراسة كل الخيارات.. فكلام الأجداد ليس بالضرورة ملائماً للمستقبل ولا حتى القريب.”

من جهته، كتب نقيب صيادلة العراق، حيدر فؤاد الصائغ، في فيسبوك أيضاً “أبناءنا وبناتنا خريجي السادس العلمي وعوائلهم الكريمة، وأنتم تقررون الكلية التي ستقدمون عليها، فكروا جيداً قبل التقديم على كليات الصيدلة.”

وأضاف الصائغ “بعد 5 سنوات من الآن لن يكون التعيين الحكومي متاحاً لكم، وستكون الفرص في القطاع الخاص شبه معدومة! مستقبلكم أنتم تصنعونه باختياركم، فأحسنوا الاختيار.”

من جهته، وجه نقيب أطباء الأسنان أركان العزاوي دعوته للطلاب المقبلين على الجامعات عبر التلفزيون، وظهر في لقاء مع قناة “العراقية” الحكومية ليوجه نصائح مماثلة حول عدم اختيار تخصص طب الأسنان.

سوق العمل

حسنين شبر: لا تقرروا الذهاب إلى كلية الطب قبل دراسة كل الخيارات
حسنين شبر: لا تقرروا الذهاب إلى كلية الطب قبل دراسة كل الخيارات

وترتبط هذه الدعوات بالواقع الفعلي وحاجة سوق العمل إذ تشير إلى مشكلة حقيقية تتعلق بالتخمة في أعداد الخريجين مقابل قلة فرص التعيين في القطاع الحكومي، الذي يعد الملاذ الأول للكوادر الطبية في العراق؛ ومن واجب النقابات والجهات المسؤولة توضيح الصورة الكاملة للشباب، وعدم تركهم يتخذون قرارات مصيرية بناء على أفكار قديمة أو نظرة غير واقعية للمستقبل.

وتزامنت هذه الدعوات مع انطلاق موسم قبول دفعة جديدة من خريجي الثانوية إلى الجامعات، ما أثار انقساماً في الآراء بين مؤيدين يحذرون من التشبع في هذه التخصصات ويرون أن عدد الخريجين زاد عن حاجة البلاد ولا يجد الخريجون الجدد فرص عملة حكومية أو خاصة ناجحة، ومعارضين يرون أن التخصصات الطبية ما زالت خياراً مرغوباً ومطلوباً في السوق العراقية.

وطالب بعض الشباب المقبلين على الجامعات وأهاليهم الحكومة بوضع خطط لاستيعابهم في الكليات العلمية وبناء المزيد من المستشفيات والمراكز الطبية بدلا من دعوتهم لعدم دراسة الطب.

واشتكى طلاب وذووهم في خضم الجدل حول التخصصات الطبية، من كون فرص العمل في التخصصات الأخرى أقل من مثيلتها الطبية مع إقرارهم بأن واقع سوق العمل حتى للأطباء والصيادلة لم يعد مجدياً.

ومن أبرز الأسباب وراء التوجه نحو الطب هي المكانة الاجتماعية الرفيعة التي تمنحها المهنة، والأمان الوظيفي النسبي والدخل المرتفع مقارنة بغيرها من التخصصات في ظل ظروف اقتصادية غير مستقرة، إضافة إلى الضغط الأسري والمجتمعي الشديد الذي يمارس على الأبناء لضمان مستقبل “مضمون”. يضاف إلى ذلك نقص التوعية الكافية بأهمية التخصصات الأخرى ودورها الحيوي في بناء الدولة الحديثة.

وبالتالي تصبح الأعداد الضخمة من طلاب الطب، عبئا على الدولة وذلك بسبب قلة الكوادر التخصصية والبنية التحتية اللازمة للتدريب العملي. فالطالب في كلية الطب ليس له مجال تطبيقي عملي كافٍ، ويحتاج إلى تفاعل مباشر ومكثف مع الحالات المرضية تحت إشراف دقيق من أطباء متخصصين، والتدرب على أحدث الأجهزة والتقنيات.

وشارك خريجون من تخصصات طبية في النقاش الدائر، وقالوا إنهم تجاهلوا نصائح مماثلة قبل سنوات، ويعانون اليوم بسبب اختيارهم لتخصصات لا توفر لهم فرص عمل أو مردودا ماديا جيدا.

تحذيرات قديمة

حيدر فؤاد الصائغ: بعد 5 سنوات ستكون الفرص في القطاع الخاص شبه معدومة
حيدر فؤاد الصائغ: بعد 5 سنوات ستكون الفرص في القطاع الخاص شبه معدومة

وتكررت التحذيرات من هذا التوجه عدة مرات في السنوات الماضية، ففي العام الماضي نبهت نقابة أطباء الأسنان من فائض كبير في أعداد الخريجين، ما يؤدي إلى زيادة البطالة وانخفاض جودة الخدمات المقدمة للمواطنين.

وأرجعت النقابة أسباب هذه الأزمة إلى زيادة أعداد المقبولين في كليات طب الأسنان دون دراسة جدوى أو تخطيط مسبق، ما أدى إلى تجاوز العدد المطلوب من أطباء الأسنان وتشبّع السوق.

وتحدث مجلس النقابة في 30 أغسطس 2024 عن عقد مؤتمر صحفي احتجاجي على زيادة أعداد القبول في كليات طب الأسنان ما زاد عدادها عن الحد المقرر وتجاوز الحاجة الفعلية للسكان، وأطلق تحذيرا للمواطنين من زج أولادهم في كليات طب الأسنان للعام الدراسي الجديد.

وهذا ليس التحذير الأول للنقابة، ففي نوفمبر 2020، أصدرت بياناً نقابياً بهذا الشأن كشفت فيه حينها عن اتخاذ إجراءات مع الجهات المعنية لتحديد أعداد القبول في كليات طب الأسنان ومنع استحداث كليات جديدة أهلية وحكومية، للحفاظ على هذه المهنة وعدم إغراقها في سوق البطالة بسبب سوء التخطيط. وأظهرت عدم قدرة الحكومة على تعيين أطباء الأسنان وفق الاستحقاق القانوني، وإغراق السوق الخاص في ما وصفتها في حينها “مستنقع البطالة”.

وأكد رئيس لجنة الصحة النيابية ماجد شنكالي، أن العراق يعاني فائضًا كبيرًا في عدد الأطباء والصيادلة بنسبة 200 في المئة.

وقال شنكالي في تصريح صحفي إن “العراق يعاني من فائض كبير في عدد الصيادلة يتجاوز 200 في المئة، وهناك زيادة مماثلة لهذا الرقم في عدد أطباء الأسنان والعلميين ومساعدي المختبرات.”

وأوضح أن “هناك نقصاً حاداً في الكوادر التمريضية والإدارية والأطباء في العديد من التخصصات.”

الأعداد الضخمة من طلاب الطب أصبحت عبئا بسبب قلة الكوادر التخصصية والبنية التحتية اللازمة للتدريب العملي

وتابع أن “الحكومة تعمل على شراكة مع القطاع الخاص حيث قامت شركة إيطالية بإجراء دراسة لمستشفى محلي طلبت فقط سبعة صيادلة من أصل 200 موجودين، وأن هذا الفائض في العدد يتناقض مع النقص الحاد في تخصصات طبية أخرى مثل طب الطوارئ والطب العدلي وجراحة الدماغ والصدر.”

وأشار إلى أن “اللجنة تسعى إلى أن يكون التعيين في المؤسسات بحسب الاحتياج ووفق الاختصاصات المطلوبة لمعالجة الفائض الكبير في الأعداد.”

 وعانى العراق في السنوات الماضية من تخرج دفعات طلاب كبيرة بتخصصات طبية من جامعات خاصة حديثة النشأة في البلاد، دون أن يجد الكثير منهم فرص عمل حكومية أو خاصة بالفعل، وذلك لكثرة الكليات الأهلية وعدد المقبولين بقانون التدرج الطبي، حيث بلغ عدد كليات طب الأسنان 60 كلية، علاوة على الدارسين في الخارج، ما رفع أعداد الخريجين بشكل كبير.

ويضطر العشرات من خريجي التخصصات الطبية في العراق للانتظار سنوات عديدة قبل حصولهم على وظيفة في المؤسسات الصحية الحكومية، رغم الوعود المتكررة بضمان التعيين المركزي لهذه التخصصات.

ودفع ذلك، خريجي تخصصات طبية لتنظيم احتجاجات للمطالبة بتعيينهم، وسط استجابة جزئية شهدت تعيين قسم منهم بينما ينتظر آخرون منذ سنوات.

ووافقت الحكومة العراقية على تعيين أعداد كبيرة من خريجي الاختصاصات الصحية بعد احتجاجات نظّمها ممثلو تنسيقيات خريجي المهن الطبية والصحية في يونيو 2022 أمام بوابة المنطقة الخضراء المحصّنة في بغداد، احتشدوا فيها من جميع محافظات العراق للمطالبة بشمولهم بالتعيين المركزي.

ويقول متابعون إن خريجي كليات طب الأسنان والصيدلة مقبلون على البطالة في القطاعين الخاص والعام، إذ إن عدد الخريجين في السنوات القادمة سيفوق ما تخرّج خلال أكثر من 10 سنوات.

ويؤكدون أن هذه المعطيات وغيرها أدت إلى إحباط طلاب الجامعات وتضاؤل أملهم في المستقبل، لعدم تطبيق قانون التدرج الطبي بشكل مثالي، وتجاهل الحكومة لهذه الشريحة المهمة من المقبولين ضمن هذا القانون.

الجامعات الأهلية

نقص حاد في تخصصات مثل طب الطوارئ
نقص حاد في تخصصات مثل طب الطوارئ

وقال أستاذ الطب في الجامعة العراقية الدكتور عبدالله الطيف الدليمي إن الأزمة سببها الكم الهائل من الكليات الأهلية التي فتحت لأغراض تجارية، مع تراجع كبير في بناء المستشفيات.

وتثير الأعداد الكبيرة لكليات الطب العام وطب الأسنان والصيدلة الأهلية، التي استحدثت في العراق خلال الحكومات السابقة، وتخرج سنوياً آلاف الطلاب، ممن ينافسون خريجي الكليات الحكومية على التعيينات والعمل، جدلاً سنوياً لما له من تأثير في تعطل إمكانية التعيين الحكومي.

وشهد العراق بعد عام 2003 ارتفاعاً كبيراً في عدد الجامعات الأهلية بنسبة أكثر من 500 في المئة، وصولاً إلى 66 تحظى باعتراف وزارة التعليم العالي، وتضم هذه الجامعات أكثر من 570 قسماً في اختصاصات الطب والهندسة والعلوم الإنسانية، أما عدد الجامعات الحكومية فهو 35 فقط.

ولا تعتمد الكليات الأهلية معيار المعدل (درجة الطالب) بالقبول، بل هناك فارق كبير بين معدل قبول الطالب المتخرج من المرحلة الثانوية المتقدم للكليات الحكومية، ومعدل الخريج المتقدم إلى الأهلية، وكانت وزارة الصحة ونقابة الأطباء في السنوات السابقة قد اشتكت من ذلك.

وسمحت وزارة التعليم للجامعات الأهلية التي تعود لمستثمرين يرتبط معظمهم بجهات سياسية وحزبية، بقبول الطلاب في كليات المجموعة الطبية وغيرها بفارق كبير في المعدل العام للطالب، يصل إلى 20 درجة، إذ تقبل كليتا طب الأسنان والصيدلة في الجامعات الأهلية معدلات 79، في وقت لم تقبل فيه الكليات المناظرة لها في الحكومية معدلات تقل عن 98.45.

وقررت الحكومة العراقية، إيقاف استحداث كليات المجموعة الطبية في الجامعات الأهلية في البلاد، بعد أن خرّجت دفعات كبيرة من الطلاب غير مؤهلين لممارسة المهن الطبية، وهو ما شكل عبئاً على وزارة الصحة وأثّر على تعيينات خريجي الجامعات الحكومية، فضلاً عن التأثيرات السلبية لتلك المخرجات على حياة المواطنين، وسط دعوات تصاعدت أخيراً بوضع حد لتلك الكليات.

وفي يوليو 2024 ترأس رئيس الحكومة محمد شياع السوداني الجلسة الاعتيادية لمجلس الوزراء، ونظر في المقترحات وأوراق العمل المقدمة من النقابات والاتحادات، والاستضافة الدورية للنقباء ورؤساء الاتحادات، وتمت استضافة نقيب أطباء العراق، لمناقشة الورقة المقدمة من النقابة والمقترحات المثبتة.

وتم توجيه وزارة التعليم العالي بأن تتولى إيقاف استحداث الكليات والأقسام الطبية في الجامعات والكليات الأهلية الحالية أو التي تستحدث مستقبلاً وفق المعايير المعتمدة.

 وأوضح البيان الحكومي أن “السوداني وجه بإعادة تعيين الأطباء المستقيلين أو من ترك العمل منهم، في وزارة الصحة، في الدرجات المخصصة للوزارة ضمن قانون موازنة 2024،” مبيناً أن “التوجيهات شملت قيام وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، بالتنسيق مع وزارة الصحة ونقابة أطباء العراق، بإعداد دراسة لتوسيع القبول في الدراسات العليا داخل العراق للاختصاصات الطبية، وفق الإمكانات المتاحة للعام الدراسي القادم،” مؤكداً أن “التوجيهات تضمنت أن تتولى وزارة الصحة التنسيق مع وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، لإعداد برامج تدريبية للأطباء خارج العراق.”

نظام صحي مترد

نقص التوعية الكافية بأهمية التخصصات ودورها الحيوي في بناء الدولة تسبب في عدم فهم الطلاب لاحتياجات سوق العمل
نقص التوعية الكافية بأهمية التخصصات ودورها الحيوي في بناء الدولة تسبب في عدم فهم الطلاب لاحتياجات سوق العمل

ويعاني النظام الصحي في العراق من العديد من المشكلات والتحديات التي تؤثر على جودة وكفاءة الخدمات الصحية المقدمة للسكان، من بين ذلك تدهور البنية التحتية، الفساد الإداري، ضعف التمويل، وتأثير النزاعات المسلحة والأزمات الإنسانية.

وأدى ذلك إلى نقص في المرافق الصحية والمعدات الطبية الحديثة، وبرغم أن العراق يعاني من نقص حاد في عدد الأطباء والممرضين، فلا تتواجد خطط للتعيين والتأهيل، خاصة في المناطق النائية، كما أن هناك هجرة للأطباء المهرة إلى الخارج.

ويؤدي الفساد المالي والإداري، إلى سوء إدارة الموارد الصحية وهدرها، فضلا عن تفشي ظاهرة “الموظفين الوهميين” التي تكلف الدولة مبالغ كبيرة، ويمنع ذلك تعيين خريجين جدد، إذ يعتمد النظام الصحي العراقي بشكل كبير على التمويل الحكومي، وهذا يجعله عرضة للتأثر بتقلبات أسعار النفط وتغيرات الموازنة العامة.

كذلك تتسبب الحروب والنزاعات وتلوث الهواء والمشكلات البيئية في زيادة الضغط على النظام الصحي، وزيادة أعداد المصابين والمرضى، وتشريد السكان، والتأثير على صحة الناس وزيادة انتشار الأمراض، وارتفاع معدلات الأمراض غير السارية مثل السكري وأمراض القلب والسرطان، ما يتطلب جهودا كبيرة في الوقاية والعلاج، يقابل ذلك ضعف في خدمات الرعاية الصحية الأولية، ما يؤدي إلى ضغط على المستشفيات وتأخر في تشخيص وعلاج الأمراض، يقابل ذلك انعدام الخطط في ما يتعلق بتعيين خريجي كليات الطب الجدد.

15