تداعيات التلوث تفاقم مشاكل المواطنين جنوب تونس

حالات اختناق بسبب الغازات السامة من المجمع الكيميائي بقابس.
الخميس 2025/09/11
ثروة طبيعية مهددة

تعيش مدينة قابس (جنوب شرق تونس) منذ سنوات طويلة أزمة بيئية نتيجة تركيز المنطقة الصناعية، التي على الرغم من دورها التشغيلي لعدد كبير من أبناء المدينة، إلا أن تداعياتها البيئية على السكان وأراضيهم تتفاقم تدريجيا دون حلول جذرية لمعالجتها.

قابس (تونس) - لا تزال ولاية (محافظة) قابس تعاني من معضلة التلوث البيئي بسبب تركيز المنطقة الصناعية بالمدينة، وسط تجدد دعوات المواطنين لتدخل السلطات من أجل إيجاد حلّ جذري للأزمة البيئية.

وتعيش المدينة الواقعة جنوب شرق تونس، منذ ما يزيد عن الخمسين عاما على وقع التلوث البيئي بسبب انبعاث غازات سامة في الفضاء وأخرى في البحر، مما تسبب في إتلاف المنتوجات الزراعية والثروة السمكية التي كانت تزخر بها المنطقة.

ويقول مراقبون، إنه رغم توفر مدينة قابس تاريخيا على مختلف مقومات المشهد السياحي (البحر، الجبال، الصحراء وواحات النخيل)، إلا أنه لم يتم استغلال تلك العوامل حتى تكون قابس وجهة سياحية عالمية، بل على العكس تماما، فإنها بصدد خسارة تلك الخصائص من يوم إلى آخر.

وسجلت منطقة غنوش بقابس، ليل الثلاثاء/ الأربعاء، حوالي 30 حالة اختناق بسبب الغازات المنبعثة من مصانع المجمع الكيميائي بالمنطقة الصناعية. وتم نقل المصابين إلى المستشفى المحلي بالمنطقة لتلقي الإسعافات اللازمة.

ووجه عدد من متساكني المنطقة نداءً عاجلًا إلى السلطات الجهوية والمركزية من أجل التدخل الفوري لإيجاد حل جذري لهذه المعضلة البيئية التي باتت تؤرقهم والمطالبة بفتح تحقيق جدي في ملابسات التسربات الخطيرة ليل الثلاثاء، ومعرفة نتائج تحقيق التسربات السابقة التي طالت التلاميذ في المدرسة الإعدادية ابن رشد بغنوش، بالإضافة إلى تنفيذ قرار تفكيك الوحدات الملوثة للمجمع الكيميائي لسنة 2017.

خيرالدين دبية: إلقاء الفوسفوجيبس في البحر أنهك الثروة السمكية
خيرالدين دبية: إلقاء الفوسفوجيبس في البحر أنهك الثروة السمكية

كما طالبوا بتحويل المستوصف المحلي إلى مستشفى متوفر على الحد الأدنى الصحي لمنطقة تعاني من تهالك صحة مواطنيها وحتى يكون مهيأ لإنقاذ الأرواح البشرية في حالات مشابهة.

وتمركزت في سبعينات القرن الماضي (1972) المجموعة الكيميائية التونسية التي تستثمر مناجم الفوسفات بالقرب من شاطئ السلام وأمام واحة ساحلية، وهي حالة نادرة في العالم.

ويعرف المجمع الكيميائي بقابس، أيضا بـ”المجمع الكيميائي التونسي” في قابس، وهو قطب صناعي كبير، متخصص في الصناعات الكيميائية المختلفة، خاصة تلك المتعلقة بحمض الفوسفور و”الداب” والأسمدة.

وتقول السلطات إن وحداتها الإنتاجية تلقي يوميا 14 ألف طن من الفوسفوجبس في البحر، وإلى جانب هذا الطمي المضر بالبيئة، ينبعث من المصنع حمض الفوسفات في الجو.

وتضغط حركات المجتمع المدني، مثل “ستوب بوليشين” (stop pollution)، لتفكيك الوحدات الملوثة ونقل المجمع إلى خارج المناطق السكنية، وتؤكد على ضرورة احترام الحق في بيئة سليمة.

وباتت آثار التلوث في قابس واضحة منذ سنوات، فقد أضر بغابات النخيل ومس المائدة المائية وأصاب السكان بالاختناق.

وأفاد خيرالدين دبية منسق حركة “ستوب بوليشين” أن “تداعيات التلوث متواصلة منذ سنوات وتأثيراتها واضحة على المواطنين والواحة، حيث يوجد التلوث البحري بسبب إلقاء الفضلات الصناعية في البحر على غرار مادة الفوسفوجيبس التي أثرت على الثروة السمكية.”

وأوضح في تصريح لـ”العرب”: “هناك حالة من التصحر في البحر وعدة كيلومترات في البحر خالية من الحياة، بعدما كانت قابس واحدة من أهم محاضن الأسماك في البحر الأبيض المتوسط، وبها الآن أقل من 50 نوعا من الأسماك بعدما كانت تحتوي على 93 نوعا، كما أنها كانت تحتوي على 6 أنواع من الأعشاب البحرية والآن لم يبق سوى نوع أو نوعين.”

ولفت دبية إلى أن “التسربات الغازية في غنوش تسببت في أضرار كبيرة، وغبار الفوسفوجيبس يتراكم في الأراضي حتى فقدت خصوبتها،” مشيرا إلى أن “عمر الواحة في قابس يتجاوز 2500 عام لكن هناك كميات كبيرة من النخيل تتلف، فضلا عن استنزاف المياه، حيث كانت قابس تعد أكثر من 180 عين ماء طبيعية، في التسعينات.”

وأكد خيرالدين دبية أن “هناك انتشارا للأمراض مثل الربو خصوصا في مناطق شطّ السلام وبوشمة وغنوش، إلى جانب أمراض السرطان والأمراض العصبية لأن الملوثات تهاجم كل أعضاء الجسم.”

واستطرد قائلا: “طالبنا بتفكيك الوحدات الصناعية منذ ثمان سنوات، لكن لن يتم تنفيذ القرار، وأعدنا التحرك في مايو الماضي والآن سنعود للتحرك مجددا.”

ويؤكد أصحاب الغابات حجم الكارثة التي لحقت بنخيلهم وزراعتهم عموما بفعل تأثير التلوث الكيمياوي على غابات النخيل والزراعات والبقول، فأحرقت الانبعاثات الغازية المنتوجات الزراعية من فلفل ورمان وتمر، وهي أضرار جلية يمكن ملاحظتها، بالعين المجردة وما خفي من آثارها كان أعظم.

ويؤكد المزارعون أن غابات النخيل كانت مورد رزق العديد من العائلات وكانت تجعل من قابس جنة على وجه الأرض يستظل بها المسافر وتدر على أهلها رزقا وفيرا من منتوج التمر.

ويتمتع خليج قابس الواقع على البحر المتوسط بثروة سمكية مهمة، لكن نشاطات استخراج الفوسفات وتحويله، وهي صناعة أساسية للاقتصاد التونسي، أدت إلى تلوثه.

عدد من متساكني المنطقة وجهوا نداءً عاجلًا إلى السلطات الجهوية والمركزية من أجل التدخل الفوري لإيجاد حل جذري لهذه المعضلة البيئية التي باتت تؤرقهم

وقالت نادية بخيتي، نائبة رئيس جمعية النهوض بالقطاع الصحي بغنوش، إن “المنطقة تعد قرابة 30 ألف ساكن وعلى مساحة 800 هكتار، وهي تقع قرب المنطقة الصناعية.”

وأضافت في تصريح لـ”العرب”، أن “المنطقة تنتشر فيها الأمراض والأوبئة ومنها ألف مصاب بالتهاب الكبد الفيروسي، فضلا عن 300 حالة من أمراض ضيق التنفس، إلى جانب أمراض هشاشة العظام وتشوهات خلقية وإعاقات.”

وتابعت بخيتي: “من آثار التلوث في قابس أيضا اتلاف الأشجار وتراجع خصوبة التربة وهو ما أنهك كاهل المزارعين بالمداواة.”

ويرى المتابعون أن مستويات تلوث الهواء في مناطق قابس تجاوزت الحدود التي حددتها منظمة الصحة العالمية، حيث تتسبب الغازات السامة المنبعثة مثل ثاني أكسيد الكبريت والأمونيا في تفشي أمراض تنفسية مزمنة بين السكان، خصوصًا الأطفال وكبار السن.

وتؤكد أرقام منظمة الصحة العالمية، أن ذلك يتسبب في وفاة حوالي 6 آلاف شخص سنويا.

وتؤكد إحصائيات البنك الدولي أن تونس تخسر قرابة 2.7 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي السنوي جراء هذه المعضلة المزمنة، أي ما يعادل 820 مليون دولار، نتيجة التكاليف الصحية وتدهور الإنتاجية والأضرار البيئية التي تؤثر على القطاعات الحيوية مثل السياحة والزراعة والصيد البحري.

4