بين طوفان الحسابات الضيقة وحق النجاة المسلوب
في غزة لا تتغير المأساة بقدر ما تتبدل وجوهها وأشكالها، فهي الثابت الوحيد وسط متغيرات عبثية، تتجدد كل يوم على وقع القصف والتجويع، لتعيد إلى الواجهة سؤالاً أعمق من كل الشعارات: كيف لشعب أنهكه الحصار والخذلان أن يظل واقفاً على أرض أضحت مسرحاً لتجارب القوة والدم؟ الحملة التي سُميت إعلامياً بـ”ضد الإخلاء” ليست سوى فصل آخر من لعبة شدّ الحبل داخل القطاع، حيث تحاول حماس أن تمسك بزمام المبادرة عبر التحكم بمسارات الإجلاء، فيما يراها آخرون انعكاساً لحسابات سياسية وعسكرية ضيقة لم تُعطِ للبعد الإنساني ما يستحق من اعتبار، وكأن معاناة الناس مجرّد تفصيل في أجندة أكبر.
اليوم لسنا أمام جولة عابرة من جولات الصراع التي ملّ منها العالم وتعود إليها غزة مثخنة الجراح، بل أمام لحظة تكشف المستور: إسرائيل التي ما زالت تمعن في عقاب جماعي بلا نهاية، وحماس التي غامرت بمواجهة لا تملك أدواتها، ومجتمع دولي يجيد إصدار البيانات أكثر مما يجيد حماية المدنيين، وكأن حياة مليوني إنسان لا تستحق أكثر من ثلاث أسطر من لغة خشبية يتيمة.
نعم، حماس ليست وحدها المسؤولة عن الكارثة، لكن من الإنصاف القول إن سوء تقديرها الاستراتيجي جرّ غزة إلى حرب شاملة أكلت الأخضر واليابس، وأدخلت الناس في امتحان قاسٍ لم يعد فيه التحرير كلمة ممكنة، بل غدا البقاء نفسه أشبه بإنجاز بطولي.
المشهد ما زال مفتوحاً لأيام أخرى أصعب، والحالة المزرية التي يعيشها الناس لا تحتمل مزايدات من أي طرف؛ فليس الوقت الآن لاحتساب مكاسب سياسية أو لخطاب يُراكم رصيداً هنا أو هناك
نحن اليوم ندفع ثمن القرارات الفردية غير المدروسة، فالدائرة الضيقة التي خططت لطوفان الأقصى لم تُدرك مسبقاً حجم الكارثة الإنسانية التي ستترتب على مواجهة غير مسبوقة مع الاحتلال، أو لعلها توهّمت أن إسرائيل ستتوقف عند ضغوط الرأي العام أو عند نصوص القانون الدولي، وكأننا لا نعرف هذه الدولة منذ عقود، وكأنها لم تثبت مراراً أن لا الشرعية ولا أصوات الملايين تكفي لردعها. وهل كنا بحاجة لتجربة جديدة حتى نكتشف من جديد أنها لا تُجيد إلا سياسة الفعل المجرّد من أي رادع؟
ومع ذلك، فإن تحميل الحركة وحدها وزر هذا الخراب يتغافل عن حصار خانق مضى عليه أكثر من عقد ونصف، وعن آلة حرب لا تترك حجراً إلا وتحوّله غباراً. لكن في المقابل، من الصعب إنكار أن حسابات حماس العسكرية والسياسية لم تمنح البعد الإنساني ما يستحقه، وأن رهاناتها غير المحسوبة ساهمت في قلب المعادلة: من حلم التحرير إلى معركة النجاة. تلك هي المفارقة المريرة التي يعيشها الغزيون اليوم؛ شعب كان يحلم بالخلاص الوطني يجد نفسه يتوسل ماءً للشرب وكسرة خبز للعيش، ويترقب بارقة أمل لا تأتي، وكأن السماء أغلقت أبوابها في وجههم.
هكذا تبدو غزة الآن، فضاءً يتكثف فيه الألم إلى حد يفقد معه الكلام معناه، فلا قيمة لشعارات المقاومة إذا تحولت إلى جوع وخوف، ولا معنى لأمن إسرائيل إذا كان يمر فوق جثث الأطفال والنساء. معادلة عرجاء لا تنصف أحداً، لكنها في النهاية تُعرّي الجميع، وتترك المدني الفلسطيني وحيداً في مواجهة مصيره، عارياً من كل حماية إلا صبره.
المشهد ما زال مفتوحاً لأيام أخرى أصعب، والحالة المزرية التي يعيشها الناس لا تحتمل مزايدات من أي طرف؛ فليس الوقت الآن لاحتساب مكاسب سياسية أو لخطاب يُراكم رصيداً هنا أو هناك، بل هو وقت إنقاذ حقيقي. الأولى أن تتحول الخطابات إلى أفعال، وأن تُنقَل الأولويات من لغة الشعارات إلى خطة إنسانية تُخرج الغزيين من المأزق الذي وجدوا أنفسهم فيه مجبرين، قبل أن تلتهمهم الأيام القادمة وتنهش ما تبقى من صبر وحياة.