"بيبي" إسرائيل وغزة وكراسي الأمم المتحدة الفارغة

ما قيمة مجلس الأمن إن كان لا يستطيع أن يؤمّن الحد الأدنى من "الأمن" لمليونَي إنسان في غزة؟ وما جدوى ميثاق الأمم المتحدة إن كان يُخترق يوميًا ولا يتحرك أحد؟
الثلاثاء 2025/09/30
الكراسي الفارغة أبلغ من خطب التنديد

تخيّل أنك تسافر بالطائرة لمدة 13 ساعة فقط لتتحدث أمام زوجتك وقاعة مليئة بالكراسي الفارغة. هذا بالضبط ما حصل لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في الجمعية العام للأمم المتحدة. إنها دراما تحمل في طياتها شيئاً من السخرية الثقيلة، لكنها تلخص حال الأمم المتحدة هذه الأيام، وخاصة في ما يتعلق بالحرب الإسرائيلية المتواصلة على سكان غزة.

لندع حماس جانبا الآن سواء اختلفنا أو اتفقنا على كونها طرفا فيما يحصل في قطاع غزة أم لا، ونرى كيف تحوّل حضور إسرائيل بقياد بيبي في المحافل الدولية إلى ما يشبه عرضاً وحيد الجانب، تؤديه أمام نفسها، فيما يختفي الآخرون المساندين لها، بالصمت أو التجاهل، وكأنّ الجرائم لا تُرتكب، وكأنّ التاريخ لا يُسجل.

منذ اندلاع الحرب على غزة في أكتوبر 2023، بدا موقف الأمم المتحدة متأرجحًا بين الإدانة اللفظية والشلل العملي. بيانات، تحقيقات، تقارير. هكذا عهدنا هذه المنظمة الدولية، أموال تنفق ودبلوماسيون ليس لهم أي تأثير.. لكن على الأرض، كان الأطفال يُنتشلون من تحت الركام، والمستشفيات تُقصف، والمدنيون يُحاصرون، والمساعدات تُمنع أو تُستخدم كورقة ابتزاز سياسي.

أثبتت غزة أن الشعوب تراقب، وأن الضحايا لا يُنسون بسهولة. ومهما طال الوقت، فإن النظام العالمي القائم لن يستطيع الاستمرار إذا لم يواجه الحقائق العارية

كل هذا يحدث في بث مباشر.. أمام أنظار العالم، نفس التبريرات للحرب على غزة يكررها بيبي. لا يوجد من يهتم بما يقوله. ومع ذلك يظل الفيتو الأميركي حجر عثرة دائم يمنع صدور أي قرار ملزم يمكن أن يوقف آلة الحرب الإسرائيلية من أجل أن يلتقط الفلسطينيون في القطاع أنفاسهم لبعض الوقت.

هذا الفيتو ليس مجرد أداة سياسية، إنه في هذه الحالة تصريح مفتوح بالقتل. وعندما تصبح منظومة الأمم المتحدة رهينة لمصالح الدول الكبرى، فإنها تفقد أولى وظائفها: الحفاظ على السلم والأمن الدوليين.

الأمم المتحدة كمؤسسة يفترض أنها تخدم أعضائها، هي حالة ميؤوس منها. فما قيمة مجلس الأمن إن كان لا يستطيع أن يؤمّن الحد الأدنى من “الأمن” لمليونَي إنسان في غزة؟ وما جدوى “ميثاق الأمم المتحدة” إن كان يُخترق يوميًا، ولا يتحرك أحد؟

تسافر إسرائيل إلى نيويورك لتبرّر حربها، فتواجه كراسي فارغة، وهذا ليس فقط احتجاجاً صامتاً من بعض الوفود، بل مؤشرٌ على عزلة سياسية تتعمّق، حتى وإن كانت محمية بسقف أميركي ثابت. صوّتت أغلبية ساحقة في الجمعية العامة مراراً لصالح وقف إطلاق النار، ولإنهاء الاحتلال، ولقبول عضوية فلسطين الكاملة. نعلم أن قراراتها “غير ملزمة”، وهو تعبير دبلوماسي لطيف يعني: “لا أحد مضطر لتنفيذها”.

لا يمكن التقليل من أهمية هذا التغير في المزاج الدولي. فالكراسي الفارغة أبلغ من خطب التنديد. إنها تقول بوضوح: لم نعد نصدّق الرواية الأإسرائيلية. العالم، حتى في أكثر ساحاته الرسمية تحفظًا، بدأ يُظهر تعبًا أخلاقيًا من ازدواجية المعايير. لا يمكن أن يُطلب من أوكرانيا الدفاع عن نفسها، ويُمنع الفلسطيني من ذلك. لا يمكن أن تُعتبر مقاومة الاحتلال في مكان بطولة، وفي مكان آخر إرهابًا.

هذه الازدواجية أفقدت فعليا النظام الدولي شرعيته الأخلاقية، وتحوّل الأمم المتحدة إلى مسرح بلا جمهور. لا أحد يهتم بالجمعية العامة أو بالأمم المتحدة. هناك قوة عالمية واحدة تحكم اليوم، هي الولايات المتحدة، وأداتها التنفيذية إسرائيل، هي الرئيس التنفيذي لمشروع الهيمنة الأميركية المطلقة على الشرق الأوسط والمتوسط والمحيطين الأطلسي والهادئ..

لا يمكن التقليل من أهمية هذا التغير في المزاج الدولي. فالكراسي الفارغة أبلغ من خطب التنديد. إنها تقول بوضوح: لم نعد نصدّق الرواية الأإسرائيلية

لكن حتى هذا النقد لا يُعفي الأمم المتحدة من المسؤولية. فرغم القيود السياسية، تملك المنظمة أدوات ضغط غير مباشرة، من خلال الهيئات الأممية المتخصصة، والمحاكم الدولية، ولجان التحقيق، ومجالس حقوق الإنسان. وقد ظهرت بعض بوادر التحرك، مثل تحقيق محكمة العدل الدولية في جريمة الإبادة الجماعية، والتقارير التي توثق استخدام إسرائيل للتجويع كسلاح حرب، أو استهداف البنية التحتية المدنية عمداً.

هذه الخطوات، رغم أهميتها الرمزية، لا تُوقف الحرب. المطلوب الآن ليس مساءلة إسرائيل لأن التجارب أثبتت أن ذلك أشبه بشخص يريد هدم جبل بمطرقة، بل مساءلة المنظومة الدولية التي سمحت باستمرار هذه الحرب كل هذا الوقت.

إذن كيف لنا أن نستسيغ أن مجلس الأمن عاجز عن تمرير قرار بوقف إطلاق النار إنسانيا على الاقل. لماذا تُمنع المساعدات من الوصول؟ لماذا تُقصف قوافل الأمم المتحدة ذاتها؟ لماذا تصمت الأمانة العامة في لحظات يجب أن يرتفع فيها الصوت؟

في الواقع الأمم المتحدة أمام اختبار وجودي منذ سنوات. لم تتحرك بجدية، ولو عبر أدوات غير تقليدية، عليها استعادة دورها كحامٍ للسلم والعدالة، أو هكذا يفترض أو أن تقبل بدور ثانوي، يُختصر في إصدار البيانات وصيانة الكراسي الفارغة.

أثبتت غزة أن الشعوب تراقب، وأن الضحايا لا يُنسون بسهولة. ومهما طال الوقت، فإن النظام العالمي القائم لن يستطيع الاستمرار إذا لم يُراجع نفسه، وإذا لم يواجه الحقائق العارية.

رحلة بيبي من تل أبيب إلى نيويورك استغرقت سويعات، لكن رحلة الضمير الإنساني إلى غزة متوقفة. ربما القاعة الفارغة أصدق تعبير عن ما وصلت إليه هذه المنظومة: صوت بلا أثر، وعدالة مؤجلة، ومجتمع دولي يبحث عن نفسه وسط الركام، ضد نخبة سياسة تتحكم في صنع القرار وفق ما تمليه المصالح السياسية التي آخر همهما مصلحة الإنسان والسلم.

6