الهندام السياسي: حين تسبق الصورة القضية
 
في زمن باتت فيه الصورة تُختزل إلى رموز، وتُقرأ كما تُقرأ التصريحات الرسمية، لم يعد الهندام السياسي مجرد اختيار شخصي أو تفصيل ثانوي، بل أصبح أداةً ناعمة للتأثير، ورسالة بصرية قد تسبق مضمون الخطاب نفسه.
من واشنطن إلى بيروت، ومن كييف إلى رام الله، تتكرر الظاهرة: السياسيون يُحاكمون على ما يرتدونه قبل أن يناقشوا ما يقولونه، والإعلام يلتقط الإشارة من المظهر قبل أن يقرأ البيان.
المبعوثة الأميركية إلى لبنان مورغان أورتاغوس مثال حي على هذا التحول. حضورها في المشهد اللبناني لا يقتصر على مضمون الرسائل الدبلوماسية التي تحملها، بل يمتد إلى شكلها، تسريحة شعرها، وأناقتها اللافتة التي أصبحت جزءًا من المشهد السياسي المحلي.
في بلد يعيش على حافة التهديدات الإسرائيلية، وتحت وطأة ممانعة حزب الله في تسليم سلاح المقاومة، ظهرت أورتاغوس من قبل بخاتم يحمل نجمة داوود خلال مصافحتها للرئيس اللبناني جوزيف عون، ما أثار موجة من الجدل. حينئذ تجاوزت مضمون اللقاء إلى رمزية الإكسسوار، بحيث لم يكن السؤال: ماذا قالت؟ بل: ماذا ترتدي؟ وكأن الرسالة السياسية اختُزلت في قطعة مجوهرات.
هذا الانشغال بالشكل لا يقتصر على لبنان. الرئيس الأوكراني فولدومير زيلينسكي، الذي يخوض حربًا وجودية ضد الروس، أثار هو الآخر جدلا واسعا بسبب بذلته الكاكية التي ارتداها خلال زيارته للبيت الأبيض.
الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي استقبله عند المدخل، علّق قائلا “أنت جميل هكذا”، في إشارة إلى بساطة مظهره مقارنة ببذلته السابقة التي أثارت انتقادات واسعة من بعض الإعلاميين والسياسيين الأميركيين.
◙ الهندام السياسي ليس جديدا في إثارة الجدل. كوفية الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات تحولت إلى رمز عالمي للقضية الفلسطينية، وقبعة تشي غيفارا أصبحت أيقونة للثورة
البعض اعتبر أن زيلينسكي دخل مؤسسات الدولة وكأنه يدخل صالة رياضية، متجاهلا الأعراف الدبلوماسية، بينما رأى آخرون في بذلته رسالة مقاومة، تعكس واقع بلاده تحت القصف، وتجسد حالة الطوارئ التي يعيشها شعبه.
الهندام السياسي ليس جديدا في إثارة الجدل. كوفية الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات تحولت إلى رمز عالمي للقضية الفلسطينية، وقبعة تشي غيفارا أصبحت أيقونة للثورة، رغم أن كثيرين لا يعرفون تفاصيل نضاله.
هذه الرموز البصرية باتت تحمل شحنة سياسية تفوق أحيانا الكلمات، وتُستخدم كأدوات مقاومة أو استفزاز، بحسب السياق. الإعلام يضخمها، والجمهور يستهلكها، والسياسيون يدركون قوتها، فيوظفونها بذكاء أو يسقطون ضحايا لها.
لكن الخطورة تكمن حين تُختزل القضايا الكبرى في تفاصيل شكلية، فيُنسى المضمون لصالح المظهر. في عصر السرعة، حيث تُستهلك الأخبار عبر صور وفيديوهات قصيرة، أصبح الشكل أداةً للتأثير الفوري.
الجمهور لا يقرأ البيان الصحفي، لكنه يلاحظ لون ربطة العنق. لا يتابع تفاصيل المفاوضات، لكنه يعلّق على تعبيرات الوجه وملامحه وسيماته. الإعلام بدوره يضخم هذه التفاصيل، ويحولها إلى عناوين رئيسية، فيغدو السياسي أسيرا لهندامه أكثر من أفكاره.
السياسيون اليوم أمام معادلة دقيقة وصعبة: كيف يختارون مظهرهم دون أن يتحول إلى استعراض؟ كيف يوصلون رسالتهم دون أن تُختزل في بذلة أو خاتم؟ الهندام يمكن أن يكون وسيلة تعبير، لكنه لا يجب أن يطغى على القضية.
الدبلوماسية ليست عرض أزياء، لكنها أيضا ليست معزولة عن رمزية الصورة. في زمن الصورة، على السياسي أن يدرك أن أبسط التفاصيل في مظهره تُقرأ وتُفسر، وربما تُستغل. لكن الأهم أن تبقى القضية في صدارة المشهد، لا أن تُختزل في تسريحة شعر أو بذلة عسكرية أو كوفية ثورية.
الهندام السياسي ليس مجرد اختيار، بل مسؤولية. مسؤولية أن لا يتحول الشكل إلى غطاء للمضمون، ولا أن يُستغل كأداة لتشتيت الانتباه عن جوهر القضية. ففي النهاية، الشعوب لا تُنقذها الأناقة، بل المواقف.
 
    
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
        
      
     
        
      
    