المساجد في العراق تتحول لساحة صراع سياسي مع قرب موعد الانتخابات
بغداد – تشهد الساحة العراقية عودة حادة لصراعات التيارات الدينية، مع اقتراب موعد اجراء الانتخابات البرلمانية المقرر في نوفمبر المقبل، حيث تحوّلت المنابر في المساجد إلى ساحات للتنافس السياسي.
هذا التوتر الذي كان يغلي تحت السطح، طفا على السطح في حادثة مأساوية بجامع عبد الكريم ناصر في بغداد، راح ضحيتها الإمام والخطيب الشيخ عبد الستار القرغولي.
وكشفت الحادثة عن انقسامات عميقة بين التيارات التي تسعى للسيطرة على المشهد الديني وتوظيفه لخدمة أجنداتها الانتخابية. فالمساجد أصبحت مسرحا لصراعات النفوذ، حيث تسعى بعض الأحزاب والتيارات السياسية إلى توظيف الأئمة والخطباء لجذب الأصوات وتوجيه الرأي العام.
وينذر هذا الواقع بتفاقم الانقسامات المجتمعية والدينية، ويُفقد هذه الأماكن قدسيتها ودورها الأساسي في نشر قيم التسامح والتعايش السلمي. كما يثير هذا التوظيف السياسي للدين مخاوف جدية بشأن تداعياته على السلم المجتمعي ووحدة النسيج العراقي، مما يحوّل الدين من مصدر للوحدة إلى أداة للتعبئة السياسية.
وأعلنت قيادة العمليات المشتركة العراقية، اليوم السبت عن تشكيل لجنة تحقيقية، بناء على توجيه مباشر من رئيس مجلس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة، محمد شياع السوداني، للوقوف على ملابسات وفاة الشيخ القرغولي.
وتأتي هذه الخطوة الحازمة في أعقاب حادثة مأساوية شهدها جامع كريم الناصر في منطقة الدورة جنوبي بغداد، حيث توفي الشيخ القرغولي بعد مشادة تطورت إلى اعتداء جسدي، ما أثار موجة من الغضب والاستنكار في البلاد.
وقالت القيادة في بيان إن التوجيه شدد على "الإسراع بكشف الحقائق واتخاذ الإجراءات القانونية بحق جميع المتورطين، تمهيدا لإحالتهم إلى القضاء لضمان تحقيق العدالة".
وأكد السوداني، وفق البيان، أن "الحكومة لن تتهاون في محاسبة أي جهة يثبت التحقيق تقصيرها أو تورطها في الحادث"، مشددا على "اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة بحق كل من يثبت تقصيره وفقاً للضوابط النافذة".
كما دعا السوداني إلى "ترسيخ قيم التسامح والتعايش السلمي، والابتعاد عن مظاهر التحريض أو الكراهية"، مؤكدا أن الحفاظ على السلم المجتمعي ووحدة النسيج الوطني يمثل أولوية للحكومة.
وتفتح وفاة الشيخ القرغولي ملفا حساسا يعكس تعقيدات المشهد الديني في العراق، حيث تداخلت التوترات الفكرية مع حسابات سياسية وأمنية حول المنابر. فالحادثة لم تكن مجرد مشادة عابرة، بل هي نتيجة صراع على المنبر بين الشيخ القرغولي ومجموعة يقودها إمام وخطيب تابع للتيار المدخلي، كما ذكر موقع "بصرة 365" نقلا عن مصدر مطلع من داخل المجمع الفقهي.
وأفاد المصدر أن الأوقاف كانت قد قسمت الأدوار بين الشيخ القرغولي وخطيب من الجماعة المدخلية، "جمعة بجمعة"، وكان دور الشيخ عبدالستار في هذه الجمعة. لكن الخطيب المدخلي حضر ومعه 30 شخصا في مركبة من نوع "كيا" من الرضوانية، واقتحموا الجامع، ومنعوا الشيخ القرغولي من اعتلاء المنبر، واحتجزوه داخل غرفة بعد التدافع معه والاعتداء عليه مما أدى إلى وفاته متأثراً متأثرا بإصابته لا سيما وأنه يعاني من مرض القلب.
من جانبه، دان مسؤول إعلام المجمع الفقهي، مصطفى البياتي، الحادث، واصفاً المعتدين بـ"البلطجية"، وحمّلهم مسؤولية وفاة الشيخ بعد منعهم له من ارتقاء المنبر.
هذه الرواية أكدت أن ما جرى لم يكن عرضيا، بل كان نتيجة دفع واعتداء مباشر من أشخاص على عداوة مع الشيخ، وربما تكون لهم أجندة سياسية محمية من جهات نافذة، كما ذكرت شهادة لموقع "بغداد اليوم".
وأثارت هذه الحادثة الجدل حول التيار المدخلي في العراق، وهو تيار سلفي عُرف بموقفه الرافض لتنظيم القاعدة ودعوته للابتعاد عن العنف والانخراط المسلح. ففي وقت سابق، أدرجته مستشارية الأمن القومي ضمن قائمة الحركات المصنفة "عالية الخطورة"، قبل أن تزيله لاحقا، مما أثار جدلا واسعا في الأوساط الدينية والسياسية.
وقد لاقى الحظر اعتراضات من بعض الشخصيات السنية التي رأت أن التيار لم ينخرط في نشاط مسلح، وأن تصنيفه تجاوز على الحريات الدينية.
في المقابل، سُجلت إشارات في فترات لاحقة إلى محاولات لتخفيف التعامل معه، بل إن بعض رموزه حظوا بتقدير رسمي لكونهم وقفوا ضد تنظيم القاعدة خلال سنوات العنف الطائفي، الأمر الذي جعل صورته متباينة بين من يراه تيارا متشددا يجب ضبطه، ومن يعتبره شريكا في مواجهة التطرف.
هذه المفارقة بين الحظر والتكريم تعكس عمق التعقيد في الموقف الرسمي من التيارات الدينية، حيث تتغير المعادلات بتغير الظرف الأمني والسياسي.
وفي المقابل، قدم الشيخ السلفي عبيد الشمري، المحسوب على "المدخلية"، رواية مغايرة، قائلا إن ما حدث لم يكن سوى "سوء تفاهم" بين القرغولي وأحد المصلين، تزامن مع إصابته بنوبة قلبية مزمنة، مؤكدا أن وفاته جاءت نتيجة انفعاله الشديد.
وتعكس هذه الرواية محاولة لتخفيف الطابع السياسي والديني عن الحادثة، في وقت تتوسع فيه الاتهامات حول دور التيار المدخلي في صراع المنابر.
وعقب الحادث، أعلنت وزارة الداخلية العراقية عن فتح تحقيق فوري، وتمكنت من إلقاء القبض على عدد من المتهمين في القضية، وهي خطوة تعكس سرعة استجابة الأجهزة الأمنية لخطورة الموقف.
وأثار الحادث ردود فعل واسعة على المستويين الرسمي والشعبي، فقد أدان ديوان الوقف السني الحادث ووصفه بـ"الإجرامي الجبان"، بينما حمّلت النائبة نهال الشمري رئيس ديوان الوقف السني مسؤولية ما وصفته بـ"سوء الإدارة وتهيئة بيئة من الفتنة والانقسام".
وتعتبر هذه الحادثة اختباراً حقيقياً لالتزام الحكومة العراقية بفرض سيادة القانون، وتأكيد قدرتها على حماية المؤسسات الدينية من أي اعتداءات، خاصة في ظل الظروف السياسية الدقيقة التي تمر بها البلاد. وتتجه الأنظار الآن نحو نتائج التحقيق الذي تشرف عليه اللجنة المشكلة، والذي من المنتظر أن يكشف الحقائق الكاملة ويحدد المسؤوليات، تمهيداً لمحاكمة عادلة تضمن تحقيق العدالة للشيخ القرغولي وعائلته.