المجتمع الميزابي في الجزائر مثال في الانضباط والتكافل والتضامن على مدار قرون

قصور وادي ميزاب أبرز سمات الموروث الثقافي تعاني الإهمال والتخريب.
الأحد 2025/08/24
تكافل اجتماعي متماسك

يحافظ بنو ميزاب في الجزائر على تقاليدهم الراسخة التي تميز مجتمعهم وبالانضباط والتقيد الصارم والتعاون الجماعي منذ قرون، وهو مستمد من القيم الإباضية وتديره مجالس عرفية ما ساعد في الحفاظ على الهوية والثقافة المحلية رغم الزمن.

الجزائر - يبرز النظام الاجتماعي بمنطقة وادي ميزاب في ولاية غرداية التي تبعد بنحو 600 كيلومتر جنوبي الجزائر، كواحد من أبرز دعائم التماسك المجتمعي منذ مئات السنين، وقد نجح في إرساء معالمه في مختلف مناحي الحياة كالهندسة المعمارية الاستثنائية وإدارة التجارة والأعمال بنجاح كبير.

والمجتمع الميزابي الذي تشكل على أنقاض الدولة الرستمية، بحسب بعض العارفين في التاريخ، ليس في حاجة إلى إثبات نفسه، بل أصبح مثالا يحتذى به في الانضباط والتكافل والتضامن، وفي نفس الوقت منصهرا في السلطة الحكومية في تناغم تام بعيدا عن الصراعات والتجاذبات.

ويحرص بكير، أحد المنحدرين من قصر القرارة بغرداية وهو مهتم بشؤون أبناء منطقته في الجزائر العاصمة حيث يقيم، على الالتزام الدقيق بالقواعد والأحكام التي تحكم هذا المجتمع حتى لو كان بعيدا عن مسقط رأسه بمئات الكيلومترات.

وبالنسبة إلى بكير، لا يتعلق الأمر بالخوف من “الخروج عن الملة”، بل هي قناعة راسخة توارثها المزابيون أبا عن جد منذ قرون، ولا يمكن بأيّ حال من الأحوال التفريط فيها، فهو اليوم لا يمكنه إقامة حفل زواج ابنه لأنه ببساطة لم يحصل بعد على الضوء الأخضر من حلقة العزابة، الهيئة الأعلى والأهم في الهيكل التنظيمي للمجتمع الميزابي.

انسجام المجتمع الميزابي يعود إلى البنية التحتية التي استثمرت في العنصر البشري وجعلت منه سفيرا للنموذج الحياتي الناجح

وحلقة العزابة هي هيئة تضم العلماء والأئمة والأعيان من أهل الرأي والمشورة من الشعب، تتولى الإشراف الكامل على شؤون المجتمع الإباضي الدينية والتعليمية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وتشمل مهامها – عبر المسجد – ضبط مواعيد الزواج، وتحديد قيمة المهور.

كما يعد مجلس العشيرة، والمجلس العائلي، من هيئات تركيبة المجتمع الميزابي، إلى جانب جمعية الشباب المعروفة أيضا باسم “نظام الحراسة”، والمجلس الديني النسائي الذي يختص بالأمور الدينية للنساء التي يستعصي على الرجال الخوض فيها.

ويفخر عمر بودي، أحد الصحافيين الرياضيين البارزين من الجيل الجديد، والذي ينحدر من غرداية وبالضبط من مدينة “قصر” بريان، بأن جده كان من الأعضاء البارزين في حلقة “العزابة” التي يعتبرها القلب النابض للنظام الاجتماعي في وادي ميزاب.

ويرى بودي أن هذا النظام “يتميز بالتقيد الصارم والتعاون الجماعي، وهو مستمد من القيم الإباضية، إذ يقوم المجتمع على مجالس عرفية تدير الشؤون المحلية، مثل مجلس ‘العزابة‘ الذي يشرف على القضايا الدينية والاجتماعية، وينظم الحياة اليومية وفق مبادئ التضامن والانضباط، ما يعطي لسكان المنطقة ميزة روح التكافل، حيث تتوزع المسؤوليات بين الأفراد لضمان استقرار المجتمع.”

وعن تجربته الشخصية، قال بودي إنه اكتشف عن قرب القوانين العرفية التي تحافظ على السلم (نظام الحراسة يومي بين أفراد المنطقة بالتناوب)، وتنظم الزواج (الأعراس الجماعية وكان بين العرسان في صيف 2019)، والميراث، وكذلك الأسواق.

ويؤكد أن هذا النظام، الموروث منذ قرون، ساعد في الحفاظ على الهوية والثقافة المحلية رغم التغيرات الزمنية، “وأضحى يضرب به المثل في العالم.”

حلقة العزابة هيئة تضم العلماء والأئمة والأعيان من أهل الرأي والمشورة تتولى الإشراف الكامل على جميع شؤون المجتمع

ويعيش يوسف بوعبون، وهو ناشط سياسي ومستثمر، في مدينة مارسيليا بفرنسا منذ 37 عاما، لكنه رغم ذلك لا يزال محافظا على التقاليد والأعراف، كما لو أنه يعيش في غرداية أو الجزائر، رغم اندماجه في مجتمع مختلف جذريا في جوانبه الثقافية والفكرية والروحية.

ويرجع بوعبون انسجام واتحاد المجتمع الميزابي في الداخل والخارج إلى “البنية التحتية التي استثمرت في العنصر البشري وجعلت منه سفيرا للنموذج الحياتي الناجح في الجزائر وخارجها.”

كما يذكر أن من بين عناصر هذه البنية التحية “المركب”، أو الجمعية بمسمى القانون الفرنسي، والتي تضم المسجد والمدرسة القرآنية، اللذين يتوليان تعليم القرآن وتدريس اللغة العربية للمئات من التلاميذ، في خطواتهم الأولى نحو النجاح في حياتهم المهنية. والأمر هنا لا يخص مدينة مارسيليا فقط بل كل المدن الفرنسية والدول التي تضم جالية تنحدر من أصول ميزابية كالسعودية وبريطانيا وإسبانيا وكندا.

ويعد الدين الإسلامي عماد المجتمع الميزابي، حيث يتولى المسجد ضبط أهم المسائل التي تختص بالحياة اليومية والعلاقات بين الأفراد، حتى أصبحت الأعياد والمناسبات الدينية شواهد حقيقية لإظهار أن هذا المجتمع متوحد في بنيته وعاداته وتقاليده.

ويتبع الميزابيون، المذهب الإباضي (المذهب الإسلامي الأول في سلطنة عمان) الذي لا يختلف كثيرا عن المذهب المالكي الذي يتبعه أغلبية الجزائريين، بحسب ناصر حفار، رئيس جمعية خيرية تهتم بتقديم الخدمات والمساعدات لمن هو في حاجة إليها، كالتكفل بالمرضى، ونقل الموتى.

قناعات راسخة
قناعات راسخة 

ويجسد “دار العرش” – الذي تقابله تسمية النُزُل – تعزيز اعتبار المسجد دعامة رئيسية في المجتمع الميزابي، حيث يتخذه الميزابيون في كل منطقة وبلدة يرحلون إليها من غير مدنهم الأصلية، سواء داخل الجزائر أو خارجها، فضاء للراحة، فيها قاعة للصلاة، وهي مجهزة بمرافق ووسائل الطهارة، ودون مقابل.

ويمارس الناس فلسفةً بسيطةً هي “اعمل لدنياك كما لو أنك تعيش أبداً، واعمل لأخراك كما لو أنك تموت غداً”، وهكذا فالتكافل الاجتماعي شبيه بالنمط العمراني المتماسك، ما منح الإنسان الميزابي استمراريةً بارزةً عبرَ التراب والزمن، وخلود الجماعة في التاريخ والجغرافيا، وهو ما تحقق بعد أن صنفت منظمة اليونسكو، مدن بني ميزاب تراثاً إنسانياً منذ العام 1982.

وهم يشبهون إلى حد ما منتج “التجاوت”، وهي قربة مصنوعة من جلد الماعز لا يخلو جهاز عروس منها، فتحملها إلى بيت زوجها مرصعة بنسيج شبكي تحيكه من تيجان القرنقل.

وفي أيام الصيف الحارة تُملأ تلك القربة لتصبح مبرداً طبيعياً يروي العطش بالماء الزلال المعطر، بيد أن لها وظيفة اجتماعية أخرى، فغيابها من مِعْلقها في سطح المنزل يعني أن الزوج غائب، فيهبّ الجيران بإرسال أطفالهم للزوجة الوحيدة، بغرض الاطمئنان عليها وخدمتها، وقضاء حوائجها حتى عودة سيد بيتها.

ويشدد بودي، على أن المرأة الميزابية تحظى بمكانة محترمة، وتشارك في النشاط الاقتصادي المنزلي، ويؤكد آخرون أنه لا يسمح لها بالزواج من غير رجل ميزابي، حتى “لا تختلط الأنساب،” والأمر ينسحب كذلك في الغالب على الرجال.

ولكن بوعون، الذي تزوّج جزائرية تنحدر من مدينة خنشلة المحسوبة على منطقة الشاوية يقول، وكأنه يحاول تصحيح بعض المفاهيم والأفكار، أن والده المرحوم، لم يمانع أبدا في مصاهرة العرب، شريطة أن يكون المتقدم “يخاف الله ويقيم الصلاة،” في إشارة إلى اتّباع دين الإسلام.

كما دافع عن موقف الميزابيين من ثورة التحرير الجزائرية ضد المستعمر الفرنسي، مبرزا الموقف الشهير للشيخ بيوض – شغل منصب وزير في الحكومة الانتقالية الجزائرية – الذي رفض فصل الصحراء عن الجزائر، كما استدل أيضا بشاعر الثورة الراحل مفدي زكرياء، مؤلف النشيد الوطني “قسما”.

ويعتبر ناصر حفار، أن النظام المجتمعي الميزابي الذي يتيح تشكيل لجان متخصصة في جميع المجالات التي تهم حياة السكان، لا يُعَدٌّ إطلاقا التفاتا أو تقويضا لسلطة الدولة، وإنما هيئة معنوية مساعدة وُجدت لخدمة المصلحة العامة.

المسجد يتولى ضبط أهم المسائل في المجتمع الميزابي والأعياد والمناسبات الدينية شواهد أنه متوحد في بنيته وعاداته وتقاليده

ويشارك المجتمع الميزابي في الحياة السياسية كمكون فعال من خلال استوزار شخصيات منه في الحكومات المتعاقبة، وتولي البعض الآخر مسؤوليات حساسة، فضلا عن شغل عضوية الهيئات الرسمية.

ويشتهر الميزابيون بالتجارة في الكتان والخردوات والمنسوجات عبر كافة أنحاء الجزائر، التي يملكون بها محلات ومتاجر، لا بسبب الإتقان والمهارة، بل بسبب الصدق والأمانة وحسن الاقتصاد؛ لذا فإن مدنهم مزدهرة، عامرة بالمنتجات والسياح المحليين والأجانب، وهي الأكثر ترحاباً وأمناً وأماناً؛ إذ يخضع الزوّار لمرافقة مرشدين سياحيين مع التقيد بممنوعات، مثل عدم التجول بألبسة منافية للأدب والذوق العام، كما يمنع تصوير النساء والشيوخ والتدخين.

وتجسّد قصور وادي ميزاب أبرز سمات الموروث الثقافي لمنطقة يسمّيها المؤرّخون بـ”بلاد الشبكة”، نسبة إلى شبكة الأودية المترابطة التي تشقها من الشمال الغربي نحو الجنوب الشرقي. وقد قال عنها المهندس المعماري الفرنسي الشهير، لوكور بوزييه، إنها “هندسة من دون مهندس،” معربا بذلك عن انبهاره بعمارة تلك القصور.

ومن اليسير للزائر أن يلاحظ أنّه في أعالي كلّ قصر يأخذ المسجد موقع القلب بمنارته الهرمية، لتبرز من بعيد للزوّار خصوصية العمران المحلي، وحوله تلتفّ المنازل في سلم تنازلي، مشكلة أزقة ضيّقة ومتعرّجة تشعر الزائر كما لو كان داخل متاهة.

ويعدّ وادي ميزاب معقل الإباضية في الجزائر، ورغم كلّ التحوّلات التي تشهدها البلاد يحاول الإباضيون الحفاظ على هويتهم الثقافية والدينية والمعمارية في المنطقة، ولكن ذلك لم يمنع من حصول مواجهات واشتباكات عنيفة خلال الفترة القريبة الماضية في غرداية لاعتبارات طائفية.

وتحتضن القصور داخل أسوارها مكتبات يعود بعضها إلى القرن الثالث عشر للميلاد، كما تضمّ آبارا قديمة تحمل اسم حافريها، وغالبا ما توجد قرب كل بئر نخلة، ففي غرداية الماء مقدّس والنخلة أولى بالقطرة التي قد تذهب هدرا، وهذا ليس بغريب على حضارة ميزاب، فالذي عمّر المنطقة شبه الصحراوية، كان يدرك شحّ تساقط الأمطار فيها وفكّر مليا في قدسية الماء، التي تقول الأرقام الآن إنها لا تتجاوز 90 ملم في السنة.

مكانة محترمة
مكانة محترمة

وعند مخرج القصر في الأسفل توجد ساحة كبرى، هي بمثابة مركز للنشاط الاقتصادي والتجاري للمجتمع الميزابي، حيث تستقبل التجار من غرداية وخارجها.

ومع ذلك فقد باتت هذه الثروة التاريخية تعاني الإهمال والتخريب، وإن سلم قصر بني يزقن بالنظر إلى إجماع سكانه على ضرورة المحافظة عليه، وعلى النمط التقليدي والخصائص التراثية والعمرانية فيه، فإن قصر العطف يشكو الآن من عدوى البناء العشوائي المخالف للأعراف، ففي مدخله الرئيسي شيّدت بناية “عصرية” شوّهت واجهته كمعلم عمراني تراثي.

كما كان للعوامل الطبيعية تأثيرها في تصدع البنايات، ما جعل السكان يرتجلون في “ترميمها” دون أدنى مراعاة لهندستها ومواد البناء المستخدمة، فمساكن عديدة تقام الآن في قصر العطف وبعض القصور الأخرى باستخدام الآجر والإسمنت، رغم أنها ضمن القطاع المحفوظ لوادي ميزاب.

وللتستر على هذه التجاوزات، تعمد بعض أصحاب هذه البنايات اللجوء إلى الطين والجير لطلاء جدرانها الخارجية، في حين أن سكان آخرين لم يكلفوا أنفسهم حتى عناء ستر هذا العيب، إذ ترى بيوتهم لا تمت بصلة لمنطقة مصنفة عالميا، في حين تؤدي السلطات المحلية والمصالح المختصة دور “شاهد لم ير شيئا.”

وفي خارج القصور حيث التوسعات السكنية والواحات وأنظمة تقسيم المياه المعقدة، يتهدّد الخطر المئات من الآبار القديمة، وبحسب قسم التراث بمديرية الثقافة للولاية فإنّ وادي ميزاب يضم أكثر من 1500 بئر، وأغلبها اليوم مهددة بالانهيار، محذرا من الخطر الذي يحدق بالسكان المحيطين بها.

ويعرف المخطط الدائم لحفظ واستصلاح القطاع المحفوظ لوادي ميزاب “تأخرا كبيرا” منذ انطلاق دراسته في العام 2007، بعد توصيات فريق من أخصائيي منظمة اليونسكو الذي تنقل إلى مدينة غرداية، وذلك بسبب “بطء عمل مكتب الدراسات” الذي لم يحترم الآجال المتعاقد عليها.

15