العلا… من صون تراث السعودية إلى ريادة الاستدامة البيئية

محافظة العلا لا تكتفي بصون التراث، بل تصنع مستقبلا أخضر حيث تتعايش الطبيعة مع الإنسان في تناغم مستدام.
السبت 2025/10/11
نموذج للتنوع الحيوي الصحراوي

أبوظبي- في مشهد يعكس التزام المملكة العربية السعودية بتعزيز جهود الاستدامة البيئية، شاركت الهيئة الملكية لمحافظة العُلا في مؤتمر الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة المنعقد هذا العام في العاصمة الإماراتية أبوظبي، والذي يُعد أكبر وأهم تجمع عالمي معني بالحفاظ على الطبيعة والتنمية المستدامة. ويجمع هذا الحدث البارز قادة الحكومات، ومنظمات المجتمع المدني، والقطاع الخاص، بهدف وضع أولويات بيئية عالمية واتخاذ خطوات عملية لحماية النظم البيئية المهددة.

وتأتي مشاركة الهيئة الملكية لمحافظة العُلا في هذا المؤتمر لتؤكد التزامها الراسخ بجعل العُلا نموذجا عالميا في مجالات الحفاظ على البيئة والتنمية المستدامة. وقد استعرضت الهيئة خلال المؤتمر أبرز مبادراتها البيئية، التي تتنوع بين حماية الحياة الفطرية، وإعادة تأهيل المواطن الطبيعية، وإعادة توطين الأنواع المهددة بالانقراض، إلى جانب مشاريعها الريادية في تحقيق التوازن بين الزراعة والتنوع الحيوي.

وتُعد العُلا، بما تمتلكه من تنوع بيئي فريد، موطنًا للعديد من الأنواع النباتية والحيوانية النادرة، ما يجعلها بيئة مثالية لتطبيق نماذج مبتكرة في الحماية البيئية. وقد حظيت هذه الجهود بتقدير دولي، حيث تم تسليط الضوء عليها ضمن التقرير الدولي للاتحاد حول الزراعة وصون الطبيعة، الذي أبرز أهمية الممارسات الزراعية المستدامة في حماية التنوع الحيوي.

ومن أبرز إنجازات الهيئة الملكية للعُلا إدراج محمية شرعان الطبيعية ضمن “القائمة الخضراء” للمناطق المحمية والمعاد تأهيلها التابعة للاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة. ويُعد هذا الإدراج اعترافا دوليا بجهود الهيئة في الإدارة الشاملة والمستدامة لأحد أهم المواقع الطبيعية في العُلا، حيث تم تطوير المحمية لتكون نموذجا متكاملا يجمع بين حماية البيئة وتعزيز السياحة البيئية والتعليم البيئي.

◄ ذاكرة الأرض ومستقبلها الأخضر
ذاكرة الأرض ومستقبلها الأخضر

وتغطي محمية شرعان مساحة شاسعة من الأراضي الصحراوية والجبال، وتضم تنوعا بيولوجيا غنيا يشمل أنواعا نادرة من الحيوانات مثل النمر العربي، والوعل النوبي، والنعام أحمر الرقبة، إلى جانب نباتات صحراوية مهددة بالانقراض. وقد عملت الهيئة على إعادة توطين بعض هذه الأنواع ضمن برامج علمية دقيقة، بالتعاون مع خبراء محليين ودوليين، لضمان استدامة التوازن البيئي في المنطقة.

وتأتي مشاركة الهيئة في مؤتمر الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة في إطار شراكتها الإستراتيجية مع الاتحاد، والتي انطلقت عام 2021 وتُوّجت بعضويتها الرسمية في عام 2022. ومنذ ذلك الحين، أثمرت هذه الشراكة تنفيذ عدد من المشروعات المحورية، من أبرزها تطوير شبكة متكاملة من المناطق المحمية في العُلا، ومبادرات استعادة النظم البيئية المتدهورة، وتحديث أطر الحماية البيئية، إلى جانب إطلاق برنامج “الرياضة من أجل الطبيعة”، الذي يربط بين النشاط البدني والتوعية البيئية.

وتسعى الهيئة من خلال هذه الشراكة إلى تعزيز مكانة العُلا كمختبر حي للابتكار البيئي، حيث يتم اختبار وتطبيق حلول مستدامة قابلة للتكرار في مناطق أخرى من المملكة والعالم. ويأتي ذلك في انسجام تام مع أهداف “مبادرة السعودية الخضراء” ورؤية المملكة 2030، التي تضع الاستدامة البيئية في صميم خطط التنمية الوطنية.

ومن بين أبرز ما تطرحه الهيئة في مؤتمر أبوظبي هذا العام، مبادراتها في تحقيق التوازن بين الزراعة والتنوع الحيوي، وهي قضية محورية في النقاشات البيئية العالمية. ففي العُلا، حيث تشكل الزراعة جزءًا من التراث الثقافي والاقتصادي، تعمل الهيئة على تطوير نماذج زراعية مستدامة تحافظ على الموارد الطبيعية، وتقلل من استهلاك المياه، وتحمي التربة، وتدعم التنوع البيولوجي المحلي.

◄ احتفاء بما لا ينسى
احتفاء بما لا ينسى

وقد تم تنفيذ عدد من المشاريع التجريبية بالتعاون مع المزارعين المحليين، لتشجيع استخدام تقنيات الزراعة الذكية، وإعادة إحياء المحاصيل التقليدية المتكيفة مع المناخ الصحراوي، مثل النخيل والزيتون والعنب. كما تم إنشاء مناطق عازلة لحماية المواطن الطبيعية من التوسع الزراعي غير المنظم، بما يضمن استمرارية الحياة الفطرية في محيط المناطق الزراعية.

ولا تقتصر جهود الهيئة الملكية لمحافظة العُلا على الجانب البيئي فحسب، بل تمتد لتشمل حماية التراث الثقافي الغني الذي تتميز به المنطقة، والذي يعود إلى الآلاف من السنين، ويشمل مواقع أثرية فريدة مثل الحِجر (مدائن صالح)، أول موقع سعودي يُدرج ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو.

وتسعى الهيئة إلى تحقيق تكامل بين حماية التراثين الطبيعي والثقافي، من خلال تطوير مشاريع سياحية مستدامة، وتعزيز الوعي المجتمعي، وتوفير فرص اقتصادية للمجتمعات المحلية، بما يضمن استدامة التنمية دون الإضرار بالبيئة أو الهوية الثقافية.

وتؤكد الهيئة الملكية لمحافظة العُلا، من خلال مشاركتها في مؤتمر الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة، التزامها بأن تكون شريكا موثوقا في دعم الجهود الدولية الرامية إلى تعزيز أولويات الحفاظ على الطبيعة. وتُعد العُلا اليوم نموذجا ملهما في كيفية تحويل التحديات البيئية إلى فرص تنموية، من خلال رؤية شاملة تدمج بين حماية البيئة، وتمكين المجتمعات، وتعزيز الاقتصاد الأخضر.

وفي وقت تتزايد فيه التحديات البيئية عالميا، من تغيّر مناخي، وتدهور في التنوع الحيوي، وتوسع عمراني غير منضبط، تبرز العُلا كقصة نجاح سعودية تُثبت أن التنمية لا تعني بالضرورة التضحية بالطبيعة، بل يمكن أن تكون حليفا لها.

10