العقوبات الدولية على إيران وانعكاساتها الخطيرة على العراق
أعادت الترويكا الأوروبية (فرنسا، ألمانيا، بريطانيا) تفعيل آلية “الزناد” أو ما يُعرف بـ”سناب باك”، ما أدى إلى إعادة فرض العقوبات الأممية على إيران في محاولة لمنع الانتشار النووي. وبذلك تم إحياء جميع القرارات السابقة التي كانت قد جُمّدت بعد توقيع اتفاق عام 2015، المعروف بخطة العمل الشاملة المشتركة. هذه العقوبات لم تقتصر تداعياتها على إيران وحدها، بل امتدت لتشمل دول الجوار، وعلى رأسها العراق، الذي بات يواجه مأزقًا اقتصاديًا وسياسيًا بالغ التعقيد بسبب ارتباطه الوثيق بالاقتصاد الإيراني.
تواجه إيران وضعًا داخليًا خانقًا، حيث هبط الريال إلى أدنى مستوياته التاريخية، وارتفعت أسعار المواد الغذائية بشكل غير مسبوق. ووسط هذا الضغط، برز العراق كمنفذ خلفي يساعد إيران على الالتفاف على العقوبات، سواء عبر التجارة، أو تهريب الدولار، أو استمرار تصدير السلع. غير أن هذا الدور جعل العراق يتحمل عبئًا اقتصاديًا مضاعفًا، إذ أدى إلى اضطراب ميزانه التجاري وتضخم أسعار السلع الأساسية داخله.
منذ العقوبات السابقة، تحوّل العراق إلى مصدر رئيسي للعملة الأجنبية بالنسبة لإيران. إذ أعلنت السلطات العراقية مرارًا عن “هجوم عملة” على نظامها المالي، بعدما كُشف عن أن بعض التجار يعيدون بيع الدولار إلى إيران عبر السوق السوداء. ونتيجة لذلك ارتفعت مبيعات الدولار في المزادات الرسمية، ما زاد الضغط على الاقتصاد العراقي وأدى إلى تفاقم التضخم. كما يُعد العراق مستوردًا رئيسيًا للسلع غير النفطية من إيران، وهو ما يعمّق عجزه التجاري ويجعل أي اضطراب في العلاقات مع طهران مؤثرًا بشكل مباشر على الحياة اليومية للمواطنين العراقيين.
مع تصاعد الضغط الدولي على إيران، يتوقع مراقبون أن تسعى طهران لتعويض خسائرها عبر تعزيز نفوذها داخل العراق. فكلما اشتدت العقوبات، كلما ازداد اعتماد إيران على بغداد كمنفذ اقتصادي ومالي
ساهم الفساد المستشري بين السياسيين ورجال الأعمال العراقيين، إضافة إلى نفوذ الوكلاء الإيرانيين، في تسهيل عمليات تهريب الدولار والبضائع. إذ تُصدر فواتير مزوّرة وتُمرر عبر منافذ جمركية خاضعة لسيطرة جماعات مسلحة مرتبطة بطهران. كما أن نظام المراقبة اليدوي والتقليدي في العراق يجعل من هذه العمليات أمرًا يسيرًا. هذا الواقع جعل العراق عرضة للاتهام بالمساعدة على خرق العقوبات، ما قد يؤدي بدوره إلى عقوبات مالية أمريكية إضافية تُضعف اقتصاده أكثر.
لم تقتصر التأثيرات على الاقتصاد فحسب، بل امتدت إلى الجانب السياسي والأمني. إذ إن النفوذ الإيراني داخل العراق يعقّد أي مساعٍ لبناء مؤسسات دولة مستقلة القرار. فالعديد من الأحزاب والميليشيات الموالية لإيران تسعى إلى استغلال العقوبات لتعزيز حضورها، وتمويل أنشطتها عبر التهريب أو الاستفادة من العقود الحكومية. وقد أدى ذلك إلى تحويل العراق إلى ساحة صراع بين واشنطن وطهران، مع ما يحمله من تهديدات لسيادته واستقراره الداخلي.
ارتفاع قيمة الدولار مقابل الدينار العراقي انعكس مباشرة على أسعار المواد الغذائية والخدمات، ما يهدد بعودة الاحتجاجات الشعبية على غرار انتفاضة عام 2019. ويُضاف إلى ذلك شعور المواطنين بأن الدولة عاجزة عن مواجهة الميليشيات وضبط الاقتصاد، مما يعمّق أزمة الثقة بين الشعب والسلطة.
ومع تصاعد الضغط الدولي على إيران، يتوقع مراقبون أن تسعى طهران لتعويض خسائرها عبر تعزيز نفوذها داخل العراق. فكلما اشتدت العقوبات، كلما ازداد اعتماد إيران على بغداد كمنفذ اقتصادي ومالي. غير أن هذا التوجه قد يُقابل بتشديد أميركي وضغوط دولية أكبر على العراق، ما يضع بغداد في موقف بالغ الحساسية، بين استحقاقاتها الداخلية ومصالحها الإقليمية.
إن العقوبات المفروضة على إيران تهدد الاستقرار الاقتصادي والسياسي في العراق بشكل مباشر، وتضعه في قلب صراع إقليمي ودولي لا يحتمل تبعاته. ومع تفاقم الفساد وضعف سيطرة الدولة على الميليشيات، تبدو قدرة العراق على حماية اقتصاده وأمنه محدودة. غير أن هذه الأزمة، رغم خطورتها، يمكن أن تتحول إلى فرصة لإعادة النظر في اعتماد العراق المفرط على إيران، والانطلاق نحو سياسات أكثر استقلالية تراعي مصلحة شعبه أولًا، وتعيد له توازنه السياسي والاقتصادي بعيدًا عن لعبة المحاور.