العدوان على قطر.. وعقيدة نتنياهو التوسعية

قد يكون من حظ نتنياهو السعيد أن الولايات المتحدة يحكمها دونالد ترامب الرئيس الذي أقنعه المقربون منه بأنه يمكن أن يدخل الجنة ويواصل استثماراته داخلها إذا رضي عنه الرب.
الخميس 2025/09/11
لا حوار، لا وساطة ولا خطوط حمراء

العدوان الإسرائيلي على أحد الأحياء السكنية في الضاحية الشمالية للدوحة يوم الثلاثاء، لم يكن يستهدف قطر وحدها، وإنما كل الدول العربية من المحيط إلى الخليج. ولم يكن الهدف القضاء على قادة حركة حماس، بقدر ما كان يعكس رغبة دفينة في العقل الباطن لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لتأكيد قوة دولته، وإذلال المحيط العربي، وإهانته، والاستهانة به، وإقناعه بأن عليه الاستسلام، إما نتيجة هزيمة في المعركة، أو بسبب العجز والخوف، والقبول بتفوق إسرائيل عليه.

يُعدّ عدوان الثلاثاء على قطر أول هجوم مباشر من نوعه على عضو في مجلس التعاون لدول الخليج العربي، بما يعني أن لا حدود لبربرية إسرائيل، ولا لعنجهية نتنياهو. وعندما يستهدف القصف مقرًا لاجتماع قيادات من حماس كانت تتدارس الرد على مقترح الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن إنهاء الحرب في غزة، فإن ذلك يشير ببساطة إلى أن كل مشاريع الحل ومفاوضات السلام مجرد أوهام، وإن تلك المفردات من نوع “قوة الحجة” لا ينطق بها إلا الضعفاء المستسلمون، بينما تصبح “حجة القوة” أساس الرأي والرؤية والموقف والقرار، وإعادة تشكيل الخرائط، وتحديد المصالح، وترتيب الأولويات.

لقد كانت الدوحة دائمًا مقرًا للمفاوضات والمشاورات بشأن عدد من القضايا الإقليمية والدولية، ويمكن القول إن علاقاتها المتطورة مع واشنطن جعلت منها مركزًا متقدمًا للمصالح الأميركية في المنطقة، وشريكًا مهمًا في العمل على حلحلة الأزمات والقضايا العالقة، بما في ذلك القضية الفلسطينية. نجحت القيادة القطرية في أن تكون وسيطًا محايدًا من خلال حرصها على الاحتفاظ بعلاقات متوازنة مع جميع الأطراف، مهما كانت حدة الصراع بينها. لذلك كانت عضوًا أساسيًا في لجنة إدارة المفاوضات بين تل أبيب وحماس، إلى جانب مصر والولايات المتحدة، وعملت على تقريب المسافات بين طرفي النزاع، ولكن دون المساس بالثوابت والقيم القومية والدينية والأخلاقية والإنسانية. فقطر غير مستعدة لدوس رقاب الفلسطينيين من أجل حماية نفسها من غضب الإسرائيليين، كما يشتهي البعض أن يفعل.

◄ أخطر استنتاج أفرزه الهجوم على الدوحة هو أن نتنياهو أراد من ورائه إيصال رسالة إلى الجميع مفادها أن لا أحد في مأمن من يد إسرائيل

سعى نتنياهو إلى تنظيم استعراض للقوة عبر الهجوم على الدوحة. كان يريد أن يقول لشعبه إن كل العواصم العربية في مرمى أهدافه العدوانية، وإنه قادر على ملاحقة قيادات حماس حيثما حلّوا. نجح في اغتيال إسماعيل هنية في طهران في يوليو 2024، وخطط للقضاء على خليل الحية، وخالد مشعل، وآخرين في عدوان الثلاثاء على الدوحة. خطته تلك تشير بوضوح إلى أن قادة إسرائيل في الداخل، ومن يقفون وراءهم في الخارج، قرّروا تصفية القضية الفلسطينية نهائيًا، عبر تصفية الجناح السياسي للقوى الميدانية الفاعلة على الأرض. لكن حتى هذا التصور لا يجدي نفعًا، لأن العشرات من قيادات الصف الأول تعرضوا للاغتيال، واستطاع جسم المقاومة أن يجدد خلاياه.

الوجه الآخر للعدوان على قطر هو أن نتنياهو يرفض مبادرة ترامب، والمفاوضات مع حماس، ودور قطر ومصر، ويمضي كدبابة ميركافا بلا فرامل نحو أهدافه: تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، والسيطرة على الضفة الغربية، وإلغاء اتفاقية أوسلو، وطرد السلطة المنهكة. وكل ذلك ممكن ومتاح أمامه في ظل صمت العرب، وعجز المجتمع الدولي، وغفوة ضمير الإنسانية إلى أجل غير مسمى. الأخطر من ذلك أن الحديث عن “إسرائيل الكبرى” لم يعد شعارًا يرفعه أطفال المدارس، وإنما تحوّل إلى مشروع سياسي إستراتيجي حقيقي، بقوة المال والسلاح والنفوذ، وبما يختفي وراء ذلك من تآمر عربي مفضوح من قبل أطراف تعتقد أن مصالحها مع إسرائيل تفوق مصالحها مع محيطها العربي.

يتصدر نتنياهو المشهد حاليًا على أنه المؤسس الثاني لدولة إسرائيل، والعامل على إحياء اليهودية بروح العصر في فضاء أكثر اتساعًا، وهو القائل “كما هو مكتوب في التوراة، سألاحق أعدائي وسأقضي عليهم، لن أعود حتى أبيدهم، وسنحقق هذا الهدف.” تلك الكلمات تترجم ما يدور في عقل الرجل الذي حاول أن يهرب من ملاحقات القضاء بسبب الفساد، إلى حرب مدمرة على قطاع غزة، وقادته الصدفة إلى أن يصنع من نفسه إلهًا جديدًا قادرًا على تدمير حماس وحزب الله، واختراق الأراضي السورية، وضرب إيران واليمن، واغتيال قادة وزعماء المحور الذي طالما دخل معه في صراعات وحروب.

قد يكون من حظ نتنياهو السعيد أن الولايات المتحدة يحكمها دونالد ترامب، الرئيس الذي أقنعه المقربون منه بأنه يمكن أن يدخل الجنة ويواصل استثماراته داخلها إذا رضي عنه الرب، وهو ما لا يتحقق إلا بدعم إسرائيل. في فبراير الماضي، اقترح يائير كلاينباوم، وهو مؤرخ وباحث، وطالب دكتوراه في التاريخ بجامعة حيفا، وباحث في مركز ياكين، وله عدد من المؤلفات، أن يُمنح ترامب لقب “ملك على اليهود”، قائلاً “إن هذا الرجل أعطى القدس لليهود. اعترف بحقهم في أرضهم. دعا إلى طرد أعدائهم. تزوج أحفاده منهم. خاض حروب إسرائيل أمام العالم أجمع. إنه عبقريٌّ لا مثيل له. جلب السلام العالمي كما لم يفعل أحدٌ لقرون، ولم يعارض بناء الهيكل الثالث، وأنقذه الله أمام العالم أجمع.”

◄ العدوان على قطر يُعدّ أول هجوم مباشر من نوعه على عضو في مجلس التعاون لدول الخليج العربي، بما يعني أن لا حدود لبربرية إسرائيل، ولا لعنجهية نتنياهو

ويستطرد كلاينباوم “ومع ذلك، ورغم أنه سيحقق كل النبوءات، فإن البعض سيجادلون بأنه، بما أنه ليس يهوديًا وليس من نسل بيت داود، فلا يمكن أن يكون المسيح. لكن الحقيقة هي أن دراسة التاريخ بدقة تكشف أنه لكي يكون المرء ملكًا على إسرائيل، لا يُشترط أن يكون يهوديًا (انظر هيرودس، على سبيل المثال). علاوة على ذلك، على مر التاريخ، انضمت مجموعات بشرية بأكملها إلى الشعب اليهودي خلال فترة الهيكل الثاني، والأدوميون خلال فترة الحشمونائيم، وحتى الخزر في العصور الوسطى. وأصبح العديد منهم ملوكًا على اليهود.”

في هذا السياق، لا أحد يصدق ما حاول ترامب تأكيده لأمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، من أنه لم يكن يعلم بالهجوم على الدوحة. يبدو أن الرئيس الأميركي شعر بالخجل، أو صدمه مساعدوه بأنه ارتكب خطأ فادحًا بموافقته على العدوان، نظرًا إلى العلاقة القوية بين الدوحة وواشنطن، ونظرًا إلى أن أحدًا من القادة العرب لن يصدق مستقبلًا أن علاقته بإيران يمكن أن تحميه من الاعتداءات الخارجية، وخاصة من إسرائيل التي لا يمكن أن تخفي أطماعها، خصوصًا في الدول الثرية بالمنطقة.

أكد الهجوم الإسرائيلي على قطر أننا أمام ظاهرة غير مسبوقة في التاريخ الحديث، حيث لم يحدث أن ساهم المجتمع الدولي بمواقفه السلبية في إطلاق العنان لبلد ما، حتى يجعل من سماء المنطقة ملعبًا مفتوحًا لطائراته، لكي تستعرض قوتها وإمكاناتها التكنولوجية العالية، ولكي تقصف ما تشاء، متى تشاء، من بيروت إلى طهران، ومن صنعاء إلى دمشق، وصولًا إلى الدوحة، عابرة من أجل ذلك الأجواء الإقليمية من دون إذن. فإسرائيل لا تعترف بالقانون الدولي، ولا تهتم بقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، ولا يهمها أن تدينها محكمتا العدل أو الجنايات الدولية، طالما أنها أقرب صديق للولايات المتحدة، كما أكد ذلك نتنياهو بعد استهداف الدوحة، وطالما أن العواصم الغربية مترددة، لأسباب تاريخية وعقائدية وأخلاقية، عن إدانة تل أبيب أو محاسبتها فعليًا على جرائمها.

إن أخطر استنتاج أفرزه الهجوم على الدوحة هو أن نتنياهو أراد من ورائه إيصال رسالة إلى الجميع مفادها أن لا أحد في مأمن من يد إسرائيل، وأن اليد الطولى التي ضربت لبنان وسوريا واليمن وإيران، وباتت تتعامل مع أنظمة المنطقة بمنطق “عصا المؤدب”، وصلت إلى قطر واستهدفت أحد أهم الأحياء السكنية في عاصمتها، ووضعت في أذهان الجميع أنها قد تضرب أيّ عاصمة عربية أخرى، من المحيط إلى الخليج، من دون أن تحسب حسابًا للمواقف السياسية أو الحملات الإعلامية أو المرجعيات القانونية.

 

اقرأ أيضا:

        • إسرائيل تغيّر قواعد الاشتباك

8