الزعفران.. ذهب أحمر يسرد نكهة الحضارات

"الرهقان" ترياق للروح يبعث الحياة في الجسد.
الثلاثاء 2025/08/26
حصاد الزعفران طقس من نور

الدوحة - إذا كانت التوابل تروي قصصا متنوعة، فالزعفران هو الراوي الأبرز والأقدم، وهو العازف “المايسترو” الذي يقود أوركسترا النكهات، بحسب تقرير نشرته وكالة الأنباء القطرية، ونكهته العميقة مزيج من الحلاوة الرقيقة والمرارة الناعمة التي تحول أي طبق إلى وليمة ملكية، كما هو شاعر المطبخ، ينظم أبيات النكهة بقلم من نور ويسحر لونه الذهبي العيون، وتتراقص رائحته مع أحلام الروح، ويحلق طعمه المتميز بالقلب فوق جنان الأرض والبساتين، فضلا عن كونه كنز الطبيعة الذي يستحق الاحتفاء والتبجيل ليبقى رمزا للجمال والرفاهية عبر العصور.

وللزعفران، الذي التصقت به تسميات عدة تعلي شأنه وتحفل بوجوده كـ”الرهقان” و”العبير” و”الجادي” و”الذهب الأحمر”، حكاية مسافرة عبر التاريخ، تائهة بين الزمان والمكان، لا أحد يعرف بداية فصولها الأولى، فمنذ فجر الحضارات تسلّل هذا الكنز إلى قلوب البشر، ليصبح أسطورة التوابل التي تأسر المشاعر والحواس وتشفي هوس التميز والدلال، فلربما كانت بلاد فارس مهده الأول، حيث نبتت خيوطه الحمراء المتوهجة هناك، ليرتحل بعدها عبر دروب القوافل والتجارة القديمة، حاملا معه عبيره النفيس إلى أرجاء “أوراسيا” ثم باتجاه شمال أفريقيا وصولا إلى أميركا الشمالية، دون أن نغفل عما تم العثور عليه في كهوف العراق حينما كشفت الصباغ الزعفرانية عن أسرارها، حيث ترقد أقدم لوحات البشرية، معلنة عن وجودها قبل خمسين ألف عام، وما أثبتته الأبحاث الأثرية عن تعايش فريد بين الإنسان والزعفران منذ العصر الحجري، إذ كان لـ”الذهب الأحمر” حضور بارز مع سكان تلك الحقب التاريخية، يزين أحلامهم ويلون إبداعاتهم.

منذ فجر الحضارات تسلّل الزعفران إلى قلوب البشر، ليصبح أسطورة التوابل التي تأسر المشاعر والحواس وتشفي هوس التميز والدلال

فقد كان “الرهقان” يستخدم في الحضارات القديمة كالفرعونية واليونانية والفارسية، وكذلك في مصر القديمة، وظل خيطه جسرا بين الأرض والروح، ورمزا للرفاهية يُستخدم في الطقوس الدينية وتحنيط الموتى، أما في بلاد فارس فكان عطرا يزين جباه الملوك، وصبغة تلون أردية الأمراء بألوان الشمس، وكان يضاف إلى العطور والأصباغ.

وعلى طريق الحرير سافر الزعفران كأمير متوج يتم تبادله مع اللآلئ والجواهر والدر والياقوت، حاملا أسرار الشرق إلى الغرب، وفي العصور الوسطى كان يُستخدم كعملة في بعض المناطق ما يعكس قيمته العالية، وكان كنزا أيضا يحفظ في خزائن القلاع، ويُقدم كهدية للحكام، وكأن ملامسه تحمل وعدا بالسعادة والرضا.

وبين أحضان الحقول البنفسجية حيث ترقص زهور الكروسوس ساتيفوس تحت أشعة الشمس الصباحية، تولد زهرة الزعفران، تلك الجوهرة النابضة بالحياة كرمز للبهجة تضيء المناظر الطبيعية بألوانها المتوهجة كأنها تُعيد النبض للأرض بعد شتاءٍ طويل، وفي قلب كل زهرة من أزهاره تختبئ ثلاثة خيوط قرمزية كأنها أوتار تعزف أعذب الألحان، أما جمعه فليس مهنة كباقي المهن في مواسم الحصاد، بل طقس روحاني مبهر يفتح نسمات نور الفجر الأبيض حينما تمتد أياد رقيقة لتقطف زهوره، زهرة زهرة، كمن يجمع نجوما من سماءٍ زرقاء في ليلة صافية.

وتتفتح هذه الزهرة الرقيقة لأسبوع واحد فقط كل عام في قلب الخريف، وتجود كل زهرة بثلاثة خيوط قرمزية، هشة كالأحلام، تتطلب حصادا يدويا بلطف فائق قبل أن تلامسها أشعة الشمس الأولى أو بعدها بلحظات لتحميها من لمسة الضوء القاسية، وبعد القطف تجمع الخيوط بعناية فائقة وتجفف لنحو اثنتي عشرة ساعة لتتحول إلى كنز طيب العبير.

ولجمع كيلوغرام واحد من هذا الذهب الأحمر نحتاج إلى ما بين 15 ألفا و16 ألف زهرة، تحصد في ما يتراوح بين 370 إلى 470 ساعة، في رحلة شاقة تشبه نسج ألف حلم بيد حائك ماهر، ما يجعل أسعار الزعفران قريبة من أسعار الذهب، إذ تتراقص بين 10 آلاف و20 ألف دولار للكيلوغرام الواحد، كشهادة أخرى على أهمية قيمته عند الناس.

أما في المطبخ فيتمايل الزعفران على الموائد والأطباق في كل المناسبات ليمنحها لونا ذهبيا ونكهة تأسر القلوب، خصوصا في أطباق الشرق الأوسط العابقة بالتراث، ويذوب في الماء الساخن ليضفي سحرا على الشاي أو القهوة أو العصائر و”الكوكتيلات”، مزينا إياها بلمسة من العظمة والفخامة.

جمال يأسر القلوب
جمال يأسر القلوب

ووراء جماله الآسر يخفي الزعفران أو “الجادي” كنوزا صحية؛ فمكوناته ومركباته النشطة، مثل الكروسين والسافرانال التي أثبتت الدراسات فوائدها الصحية، تجعل منه جوهرة في الطب التقليدي، إذ لم يعد مجرد توابل بل سيمفونية ساحرة تتغلغل في الحواس، وإكسير ينبض بالحياة، يحمل في خيوطه القرمزية أسرار الشفاء والجمال، حيث يقاتل الالتهابات، ويهدئ النفس من أعباء الهموم، ويوقظ شرارة البهجة في القلب، ويقاوم بفضل خصائصه المضادة لأشعة الشمس التصبغات، ويصد علامات الزمن ليصبح حليفا للبشرة في رحلة التألق والجمال.

كما يتغلغل الزعفران عميقا في عالم الجمال، حيث يتسلل إلى الكريمات والمقشرات، محملا بمضادات الأكسدة التي تحمي الجسد من شرور الجذور الحرة، بينما ينسج خيوطا من السعادة، ويخفف وطأة الاكتئاب ويعزز المزاج، فضلا عن كونه يعد حارسا وفيا لصحة القلب والشرايين، فيخفض ضغط الدم ويحميه من الأمراض، وللعقل هو مفتاح ينير الذاكرة ويوقظ القدرات المعرفية.

وفي أحضان الطب الشعبي كان الزعفران ترياقا للروح، يبعث الحياة في الجسد، لكنه يقف كحكيم حذر، يتطلب الاعتدال، فخيط واحد يكفي لإيقاظ الجسد وإنارة الروح، بينما الإفراط في استخداماته قد يحيل الدواء إلى داء.

ولا يخلو كنز بهذا الجمال من الأخطار والتحديات، فزراعة الزعفران تستوجب طقسا دقيقا يتطلب تربة عذراء ومناخا عاشقا وأيادي تُشبه أجنحة الفراشات؛ إذ تنتج إيران وحدها نحو 90 في المئة من الزعفران العالمي، لكنها تواجه تقلبات المناخ وشح الماء ومحدودية الأرض الصالحة لزراعته، لتأتي بعدها دول منتجة أخرى مثل إسبانيا والهند وأفغانستان.

وفي الأسواق يهدد الغش التجاري نقاء الزعفران، حيث تمزج خيوطه بألوان زائفة، لكن الأمل يشرق كالفجر، فالزراعة الحديثة، من مائية إلى ذكية، تعد بمستقبل يحافظ على روعة الزعفران، محولا إنتاجه إلى قصيدة مستدامة تغنى عبر الأجيال، وسيمفونية تعزف ألحانا تطرب لها الأرواح والأنفس.

16