الجنوب اللبناني بين الضغط الأميركي وانكفاء الداخل

لبنان يلجأ إلى "الالتباس المدروس" بالمراوحة بين بيانات سيادية تدعو لحصر السلاح بيد الدولة وإجراءات تُدار بلغة التمنّع الخفي.
الأحد 2025/07/27
هل توجد خطط لنزع السلاح

في زوايا الصراع اللبناني المزمن، يعاود الجنوب الحضور كمنطقة اشتباك مؤجل تقف في مفترق الطرق بين مشروع الدولة ومصالح الفاعلين غير الرسميين. وإن بدا المشهد ساكناً ظاهرياً، فإن الديناميكيات العميقة التي تعصف بالمنطقة الجنوبية تكشف عن صراع طبقات بين بنية الدولة المهترئة وضغوط دولية تسعى لفرض معادلات “ضبط أمني” بوسائل غير تفاوضية.

لقد جاءت زيارة المبعوث الأميركي توماس باراك الأخيرة إلى بيروت، الثالثة خلال شهرين، لتكريس نمط جديد من الاشتباك الأميركي مع ملف السلاح في لبنان، من خلال بوابة “الهندسة الواقعية للصراع،” أي إنتاج وقائع ميدانية خاضعة للضبط والتسيير وليس للحسم.

من المنطقي ألا يُفهم الحراك الأميركي على أنه يمثل رغبة حقيقية في نزع سلاح حزب الله أو تغيير بنية التوازنات في لبنان. فالطرح كما يتبدّى من تفاصيل المقاربة الأميركية، يقوم على إعادة ترتيب وظيفة السلاح. إنه طرح وظيفي يهدف إلى تطويق الاشتباك على الجبهة الشمالية لإسرائيل، ولا يهدف بالضرورة إلى إعادة هندسة الدولة اللبنانية.

◙ الضغوط الأميركية تُمارس كامتداد لحسابات إقليمية أوسع، تتصل بحرب غزة، والجولان، وتعثّر مسارات التطبيع تجاه إسرائيل سواء مع لبنان أو سوريا

الضغوط الأميركية تُمارس كامتداد لحسابات إقليمية أوسع، تتصل بحرب غزة، والجولان، وتعثّر مسارات التطبيع تجاه إسرائيل سواء مع لبنان أو سوريا، فضلاً عن الهاجس الإسرائيلي من انفلات حدود الشمال. بذلك يغدو الجنوب اللبناني ورقة أمنية في لعبة توازنات دولية، وأبعد ما يكون بنداً سيادياً في أجندة وطنية.

تتسم استجابة الدولة اللبنانية تجاه الطرح الأميركي بـ”الالتباس المدروس،” إذ تتراوح بين بيانات سيادية تدعو لحصر السلاح بيد الدولة، وبين إجراءات عملية تُدار بلغة التمنّع الخفي.

هناك إدراك ملموس لدى دوائر القرار في بيروت أن رفض الانخراط بشكل كامل لم يعد مجدياً، لكن في الوقت ذاته، لا يمكن تحمّل كلفة المواجهة مع حزب الله. في النتيجة، يتم إنتاج خطابات توفيقية تلتف على جوهر الإشكال، وتمنح هامشاً للحركة الدبلوماسية دون أن تفضي إلى تغيير فعلي.

ما يُسمّى بـ”الصيغة الوطنية” التي تُدرس في بعض الأروقة الرئاسية تبدو محاولة لتقديم واجهة سيادية خالية من المضمون التنفيذي، وأقرب إلى خطاب تبريري في المحافل الدولية منه إلى مشروع داخلي لإعادة بناء السيادة.

تاريخ لبنان منذ اتفاق الطائف قام على منطق التسويات المجزأة التي تهدف لتجميد الصراع وليس حسمه، لكن ما نشهده اليوم هو تآكل حتى لهذه المقاربة. لم يعد ممكناً تسويق فكرة “الحل الوسط” بين السيادة والشراكة الميليشياوية.

وإذ يتفكك هذا المنطق، يدخل لبنان في مرحلة “التفكيك البارد،” حيث لا تُحسم التناقضات وتُربط بالملفات الإقليمية الكبرى دون أن تتصل مباشرة بآليات القرار المحلي.

يرفض حزب الله وفق ما تفصح عنه مواقفه المعلنة والمضمرة التعامل مع ملف السلاح بوصفه قضية مطروحة للتفاوض الداخلي أو الخارجي. السلاح بالنسبة إليه هو بنية وجودية تتجاوز منطق الميليشيا، وتستند إلى عقيدة أمنية وعقائدية إقليمية لا يمكن اختزالها في ترتيبات ميدانية جزئية. لذا، فإن كل مقاربة لا تعترف بهذه الطبيعة المركّبة للوظيفة العسكرية لحزب الله، تصطدم بجدار صلب من الرفض.

◙ حزب الله يرفض وفق ما تفصح عنه مواقفه المعلنة والمضمرة التعامل مع ملف السلاح بوصفه قضية مطروحة للتفاوض الداخلي أو الخارجي

لا يمكن النظر إلى حزب الله كفاعل عسكري فحسب، وإنما هو بنية شبه دولانية تُقدّم نفسها كدولة داخل الدولة، لكنها ليست مضادة لها كلياً؛ بل تؤسس مشروعيتها على ضعفها، وتعيد إنتاج شرعيتها من خلال خطاب قائم على وجود “خطر دائم“.

وبهذا المعنى، فإن أيّ مقاربة تُحاول اختزال السلاح في مجاله الأمني تفشل حتماً، لأن الحزب بُني ليكون مشروعاً إستراتيجياً متعدد الطبقات، يُؤطّر جمهوراً عقائدياً، ويستخدم الدولة كأداة تضليل.

أما الجيش اللبناني، بوصفه المؤسسة المفترضة لحفظ السيادة، يجد نفسه مرة أخرى حاضراً بوصفه رمزاً وغائباً بوصفه فاعلاً. فغياب التفويض السياسي، وعدم قدرة الدولة على إنتاج رؤية أمنية جامعة، كلها عوامل تمنع الجيش من تولّي الدور المنتظر. السلاح هنا يُعتَبر شبكة علاقات اجتماعية واقتصادية وعقائدية لا تنفكّ بسهولة.

الجنوب اللبناني اليوم حيّز رمادي يُدار بالضغط والتهدئة، ويخضع لمنطق “الاستقرار دون اتفاق.” هذه إدارة مؤقتة للصراع، لا تؤسس لأيّ تحول بنيوي. وفي ظل غياب توافق داخلي وتفكك النظام السياسي وتنازع المرجعيات، يظل الجنوب مرآة للأزمة اللبنانية المركّبة، أزمة نظام لا يستطيع أن يحسم في ملفات سيادية، في ظل تحول لبنان كله إلى ساحة يتقاطع فيها الخارج.

إن المقاربة الأميركية - اللبنانية الجارية اليوم هي مشهد “إدارة مؤقتة للخطر”؛ تهدئة هشّة محكومة بالتوقيت الإقليمي. الجنوب سيظل عالقاً في مفترق ما لم يتوفر مشروع لبناني حقيقي يتعامل مع ملف السلاح كمسألة سيادية أولاً، وليس كأداة تفاوضية في بازار الخارج.

5