الجسد ملامح ومطامح يحررها العراقي تحرير علي

منطوقات إبداعية تبتعد عن النسخ الآلي والمباشر للرموز التراثية.
الجمعة 2025/08/29
شخوص تعزف موسيقى لونية

يستحضر تحرير علي الرموز الشعبية والموروث الثقافي، عبر حكايات بصرية بشخوص عراقية يحررها على أسطح لوحاته التي تتناول الحياة وكأنها حكايات للتسلية لا تخلو من عبر، كما تراهن على الجمال الإنساني وجمال الموروث العراقي المتجسد في رموز ومفردات كثيرة منها الأزياء والطبيعة وأشكال الفنون.

مما لا شك فيه أن الفنون التشكيلية كانت وما تزال رفيقة الإنسان في الزمان والمكان، فهي لغته الأخرى، ينقل ويوصل بها رسائله المعبرة عن دواخله وآماله، بها يعبر عن مشاعره، وعن أفكاره مهما كان تعقيدها، وتعتبر من أسس بناء الوعي بالكائن والممكن، وبناء دعامات الابتكار والإبداع، علاوة على تعزيز وشائج وعلائق التواصل بين الشعوب بثقافاتهم المختلفة، فاللوحة التشكيلية نص عابر للقارات لا تحجزه، ولا تقف أمامه سدود القواعد اللفظية لهذه اللغة أو تلك.

والعراق كباقي بلدان العالم، وهو كما جاء في كتاب “أسس الفن التشكيلي العراقي المعاصر” للدكتور رؤوف العطار، “منذ تشكيل الدولة استند في نهضته وبدايات تكوينه على أساس راسخ من البنيان التعليمي، والتربوي، والثقافي، والفني من خلال الاهتمام بالتعليم، والثقافة، وأنتج تأثيرات وانعكاسات في ما يسمى بالبنية الفوقية المتمثلة بالفنون والثقافة، وكان أن ابتُدئ الاهتمام بالفنون التشكيلية وظهرت جمعيات تدعم هذه الفنون.”

وليس من الصدفة أن تجد الكثير من الفنانات والفنانين العراقيين يخوضون بكل جدارة مجال الفن التشكيلي مبرزين تجارب متنوعة بخصوصيات شخصية مختلفة، وبالمشترك التراثي والتاريخي والاجتماعي.

في “الثقافة الجديدة، في ريادة وحاضر التشكيل العراقي” للكاتب علي إبراهـيم الدليمي، جاء أن “الفن التشكيلي العراقي المعاصر، يعد الوريث الشرعي والأصيل لإبداع الحضارات العراقية القديمة، سومر وبابل وأكد، وقد وجدت لقى أثرية تدل على أن الحِرفي العراقي هو أول فنان في العالم يبدع وينتج القطع المنزلية الفخارية الجميلة التي تستخدم في تناول الطعام والشراب والاستخدامات اليومية الأخرى، لتتحول هذه الفخاريات فيما بعد، في يومنا هذا، إلى أشكال خزفية جمالية صرفة تدخل فيها الألوان الزاهية والأفران الحرارية.” ورغم كل ما تعرض له العراق من تدمير واعتداءات، لم يتوان الفنان العراقي في مباشرة التعبير عن لواعجه وخلجاته وثورته وأفراحه عبر التشكيل بشتى أنواعه.

تراكم إبداعي

هناك فسحة للإنسان في أعمال تحرير، يرسمه في صباه، في كهولته أو شيخوخته ويُحَمِّله جمالية ومقصدية
هناك فسحة للإنسان في أعمال تحرير، يرسمه في صباه، في كهولته أو شيخوخته ويُحَمِّله جمالية ومقصدية

من بين فناني العراق المساهمين في الحركة الفنية والتشكيلية الحديثة المبدع الأستاذ الدكتور تحرير علي الأستاذ الأكاديمي في كلية الفنون، والحاصل على الدكتوراه في فلسفة الفنون المعاصرة، علاوة على مناصب بحثية وفنية، وعضويات عربية ودولية ذات وزن فني، وقد شغل منصب منسق عام لجامعة الدول العربية ومجلس الوحدة في الأكاديمية العربية للدراسات الحديثة في جمهورية مصر في جانب الفن التشكيلي والمهرجانات الفنية في الدول العربية. وهو رئيس ومؤسس لتجمع جماليات عربية للفنانين التشكيلين العرب.

عين عضوا في مركز النخب للبحوث والدراسات الإستراتيجية، إلى جانب مشاركاته في ندوات ومؤتمرات دولية كثيرة ذات بعد تربوي وأدبي وفني في الكثير من البلدان العربية، وله مشاركات في التأليف، فقد شارك بصفته ناقدا فنيا، في لجنة التأليف الخاصة بكتاب موسوعة فناني العالم بعنوان “في الفن التشكيلي والخط العربي” الصادر عن دار الكتب والوثائق المصرية. وقام بعرض أعماله في معارض شخصية، وعربية وعالمية، في عواصم كبرى مثل لبنان ومصر والأردن والإمارات العربية وتركيا والبحرين والجزائر.

وتعد تجربة تحرير علي إحدى التجارب المتنوعة ذات الجذور العريقة في العراق، حيث نجد في أعماله بصمة خاصة تبسط ملمحها الجميل على أديم لوحات منجزه الإبداعي.

أعماله متشحة بعناصر متكاملة ضمن إيقاع متنوع يساعد على كشف المنطوق المفترض انطلاقا من العلائق التي تتقاسم وتتقاطع في إبراز المفردات التي ينسجها منظور الفنان وفق مشاعره ومطامحه وما تجيش به نفسه.

وجل أعمال هذا الفنان تخطيطات متشحة بألوان تضفي عليها الإحساسات والخلجات مما يجعلها قريبة من المشاهد وهو يتأمل مؤداها المختلف من عمل إلى آخر.

وتحرير علي رغم استمداد أعماله من التراث العراقي فهو يبتعد عن النسخ الآلي والمباشر للرموز التراثية، وإنما يحولها إلى منطوقات إبداعية مغايرة تنم عن خبرة نوعية تجعل من عناصر الأعمال الفنية ضامرة للإبداع باعتباره يجسد التركيبات غير المعتادة، فالإبداع إما أن يتأتى في إنجاز، وتقديم جديد غير مألوف، أو تقديم القديم ضمن قالب جديد غير معتاد ولا مألوف.

أيقونات للتعبير

فنان يعبر بالجسد
فنان يعبر بالجسد

لا شك أن جل الفنانين تستميلهم المرأة كعنصر جمالي كفيل بالتعبير العميق عن خلجات النفس ومشاعرها. وفي لوحات تحرير علي نجد لها تواجدا لافتا، وبمظاهر متنوعة تبعا لما تحيل عليه من تأملات وأبعاد اجتماعية ونفسية وعاطفية وغيرها. فتارة يقدمها بلمسات ساحرة وهي تعزف على الناي لتتحول تضاريس اللوحة وباقي عناصرها إلى أجواء موسيقية تكاد تسمعها وأنت تحدق في الأشكال والرتوشات الإيقاعية المحيط بالمرأة والناي بين شفتيها.

في لوحات أخرى تجد المرأة بلا ملامح غارقة في مساحات لونية وضعت ضمن مقصدية التأثير والجذب إلى ما تحيل عليه من معاناة ومتاعب أو من آمال انسدت أمامها آفاق التفاؤل والانفراج، فتراها لائذة إلى نفسها تحتضن أزمات تبوح بها تركيبة اللوحة وفق العناصر المشكلة لها.

المرأة في أعمال تحرير أيقونة للتعبير والترميز والبوح بلغة التشكيل، فهي الأم، وهي العازفة، والمهاجرة نحو المجهول، والمتأملة في مصيرها، وهي الجسد المتجاذب بين الرغبات، وهي الغارقة في هموم تلهب صدرها.

إنها المرأة العنصر المؤثر في التشكيل ومختلف الفنون الأدبية والدرامية، فهي في كل عمل من أعماله تنم عن قدرته في استعمالها أيقونة أو رمزا تعبيريا لمجريات واقع متجدد ومتغير بين فرح وترح ودموع وابتسامات، علاوة على جعلها في علاقة بمظاهر الموروث الثقافي الذي يفرض نفسه على الفنان داخل وخارج وطنه. وبذلك تمكن الفنان من توسيع النظرة تجاه المرأة باعتبارها عنصرا إبداعيا له وزنه في الفن التشكيلي الذي تجاوز بها النظرة الضيقة المحصورة في الإثارة والتهييج للغرائز فحسب.

وإذا كانت المرأة رفيقة الرجل في المحن والمسرات، فقد نال الرجل نصيبه من لوحات تحرير علي فوجوده يتكامل مع المرأة في أعماله ضمن مشهديات تصور حالاته الشعورية التي يجسدها ملمحه ووضعيته في كل عمل على حدة، والصيغ الفنية الخاصة التي يقدمه بها الفنان.

تحرير علي رغم استمداد أعماله من التراث العراقي فهو يبتعد عن النسخ الآلي والمباشر للرموز التراثية

الرجل في شتى أعمال الفنان لمحات معبرة بجسد ممتزج بألوان تبرزه وكأنه يشعر أو يهم بفعل أمر ما. هكذا نجد فسحة للإنسان في أعماله، يرسمه في صباه، في كهولته أو شيخوخته ويُحَمِّله جمالية ومقصدية يتوخاها من ورائه. إنه التعبير بالجسد وتوظيفه توظيفا فنيا لفعاليته التواصلية ولحضوره المطرد في أي مجتمع بشري في أي مكان وفي أي زمان.

ولقد أصبح جسد الإنسان أساسا فنيا لإبراز التعلق بالهوية وبالوطن وبالحقوق ضمن سياقات ينتقيها الفنان لأعماله الإبداعية. ويبدو أن تحرير علي يستعمله في أعماله الفنية التي شاهدناها ظاهرا أو مبهما تحاصره سدود، أو منطلقا، أو جزءا منه ضمن تشكيلية مثيرة للعين وللتفكير.

يذكرنا كل ما سبق بقول أحمد رباص في مقال بعنوان “حضور الجسد في الفن التشكيلي المعاصر” إن “استعمال الجسد في الفن التشكيلي أدى إلى إنجاز أعمال مقلقة ومزعجة؛ أعمال صدمت الجمهور وورطته كليا بالرغم من أنفه. فن تجلية وتعرية الأجساد، عمليات البتر الممارسة على اللحم، كل ذلك شكل لغة متميزة تعود إلى الوظيفة الأولى الأساسية للفن؛ ألا وهي الدخول في عمق الواقع للكشف عن حقيقته الدفينة وعدم الاكتفاء بتوصيفه؛ أي زعزعة اللعبة المهيأة، القائمة على المواصفات الثقافية التي تخفي الدواليب الداخلية لحياتنا.”

ويمكن أن نختم بالقول إن الفنان التشكيلي العراقي تحرير علي مبدع له بصمته وأثره، وله رؤيته للعالم الذي يعيش ويتعايش فيه مع غيره، وفي إبداعاته نتلمس الممتع والمشعر بأهمية التشكيل منصَّةً للتعبير عن الحرية، عن الاضطهاد، عن الأمل، عن الأسف، وعن المسرات والمضرات والشجون والهواجس المتنوعة، وكلها مشاعر نجد لها وزنها في الأعمال الأدبية والدرامية وغيرها وليس التشكيل فحسب.

14