التهديدات الأمنية المحتملة في تركيا في ظل العملية التفاوضية مع المتمردين الأكراد
التاريخ: 22 تموز 2015، الساعة السادسة صباحاً. في إحدى الشقق في مدينة أورفه ذات الغالبية الكردية، يتحضر شرطيان من كتيبة المهام الخاصة للالتحاق بعملهما. ولكن يداً غامضة اقتحمت الشقة، التي يقيم بها الشرطيان، وقامت بإطلاق النار من مسدس كاتم للصوت، أوقعهما صريعين.
وكان المتهم الأول هو فصيل HPG التابع لـ«حزب العمال الكردستاني» والمتخصص بحرب المدن؛ فـ«حزب العمال الكردستاني» تعلّم في مرحلة ما، في مطلع الألفية، أن يستلهم تجربة حرب التحرير الفيتنامية ضد القوات الأميركية، ففصل بين قواته التي تحارب في الجبال والسهوب النائية، وقواته المتواجدة في داخل المدن، والتي يتركز تدريبها على الاغتيالات الصامتة والتفجيرات بعبوات ناسفة، والكمائن، وأطلق عليها اسم «قوات حماية المدن» (HPG) وألقت قوات الأمن القبض على مجموعة من الأكراد المتهمين بالانتساب إلى HPG والمساهمة في تنفيذ الاغتيال.
ورغم أن «حزب العمال الكردستاني» نفى في أكثر من مناسبة مسؤوليته عن عملية الاغتيال، فإنها كانت كافية لتصاعد أعمال العنف في المدينة، وتجميد عملية التفاوض، التي كانت تسير آنذاك بين حكومة «حزب العدالة والتنمية» والزعيم الكردي عبدالله أوجلان، والذي تسرب عنه يومها أنه أبلغ أنصاره بأنه هو شخصياً سيخرج من السجن كنتيجة لهذه العملية.
ولم يتمكن «حزب العمال الكردستاني» من منع نفسه من الانجرار إلى العنف، فأعلن الاستنفار لعموم قوات الـHPG لتبدأ مرحلة حروب الشوارع في الكثير من المدن والبلدات الكردية، والتي انتهت نهاية فاجعة، ففي مدينة «صور» (لا علاقة لها بمدينة صور اللبنانية) على سبيل المثال، حاصرت القوات التركية مركز المدينة، وأخرجت جزءاً من الأهالي ومنعت دخول الإعلام وسيارات الإسعاف، وقامت بإمطار مركز المدينة بقذائف المدفعية الميدانية، رغم أن فيه أبنية أثرية لا تقدر بثمن، ودكته دكاً، وتسببت بمقتل العشرات من المسلحين والمدنيين. وبالمحصلة، تحققت غاية القاتل الغامض للشرطيين، وهي إسقاط عملية التفاوض.
في مراحل لاحقة، تكشفت الكثير من الأمور الغريبة في القضية. ففي البداية قيل إن القتلة خلعوا قفل باب الشقة، ولكن البحوث أثبتت أن باب الشقة سليم، ولم يتعرض لأيّ تدخل غير طبيعي، فالقاتل كان يتمتع بإمكانية الدخول بسهولة.
وظهرت شهادات عن شرطي ثالث كان يركض في المنطقة، ويقول إن زملاءه انتحروا، وذلك قبل أن يتم اكتشاف الجثتين. ولكن جرى إخفاء هذا الشرطي خلال المحاكمة، ولم يتم استجوابه، بل تم استبداله بشرطي آخر. كما جرى الكشف عن إتلاف جهة مجهولة لقاعدة بيانات عمليات الاتصال بالهواتف المحمولة في منطقة الجريمة.
وأمام القضاء نفى الشخص، الذي قيل إنه من أبلغ الأمن بالمعلومات حول المجموعة الكردية المتهمة بتنفيذ الاغتيال، أنه قدم أيّ معلومات حول ذلك. وقدّم شاهد عيان، يقيم في شقة مجاورة لمسرح الجريمة، إفادة قال فيها إن الشرطيين القتيلين أتيا يومها إلى شقتهما برفقة شرطيين آخرين. ولكن حتى الآن لم يكشف القضاء عن هويتيهما أو يطلبهما للتحقيق.
وقد قدم «حزب الشعوب الديمقراطي» (تحول حالياً إلى حزب المساواة والديمقراطية) باقتراح تشكيل لجنة تحقيق برلمانية، ولكنّ نواب السلطة وحلفاءهم تمكنوا من إسقاط المقترح.
وفي النهاية، وعندما وقعت المحاولة الانقلابية الفاشلة عام 2016، جرى اعتقال القاضي، الذي ينظر في القضية، بتهمة الانتماء إلى مجموعة فتح الله غولن. ولحق به كذلك أحد المحققين في القضية.
يبدو الفريق التفاوضي الكردي اليوم أكثر ليناً أمام الدولة التركية ومطالبها، وأقل تصلباً من الفريق الذي كان موجوداً يومها بزعامة دميرتاش
سلسلة التفاصيل الغريبة تجعلنا نعتقد أن جهة ما في داخل الدولة التركية، كانت غير مرتاحة للعملية التفاوضية، وتعارضها. ولذلك رتبت الأمور عبر الاغتيال لمرحلة من العنف والعنف المضاد لتعود بالتسوية السلمية إلى نقطة الصفر. وهناك ما يدفعنا للاعتقاد أن لهذه الجهة امتدادات داخل السلطة والتنظيم الكردي وجماعة غولن على حد سواء.
إن ما يخشى منه الكثير من السياسيين الأتراك هو وقوع أعمال إرهابية تعيد عملية التفاوض الحالية إلى الصفر، كما جرى قبل تسع سنوات من الآن. ولتقييم هذا الاحتمال علينا تشريح الفوارق ونقاط التشابه بين العملية التفاوضية التي بدأت عام 2013 واستمرت حتى 2015، والعملية التفاوضية التي بدأت نهاية 2024 وما زالت مستمرة حتى اليوم.
يتمثل أهم فارق في أن «حزب الحركة القومية» كان معارضاً يومها للتفاوض مع من يسميهم «الإرهابيين»، وغني عن القول إن لهذا الحزب امتدادات داخل المؤسستين الأمنية والعسكرية، يبلغ من تغلغلها أن هناك من يعتقد جاداً أن النفوذ الأمني لهذا الحزب ربما يفوق نفوذ الحزب الحاكم نفسه؛ وبالتالي هو قادر، في حال حرّك أذرعه وامتداداته بكفاءة، على عرقلة عملية تفاوضية كتلك.
أما اليوم فهو صاحب المبادرة في العملية التفاوضية. وطبعاً هذا لا يعني بالضرورة أنه كان هو الجهة الخفية التي خرّبت التفاوض، عام 2015، عبر عملية الاغتيال للشرطيين، بل يمكن القول إنه، في أضعف الإيمان، وقف متفرجاً على التدهور الذي حدث بعد عملية الاغتيال، ولم يقم بشيء لوقف انهيار العملية التفاوضية. أما اليوم فإنه سيبذل جهده لمنع تدهور كهذا. وهذا يعني أن حكومة «العدالة والتنمية» اكتسبت بعد تسع سنوات دعماً استخباراتياً وعسكرياً لا يستهان به.
وهناك فارق آخر يتمثل في نوعية الفريق التفاوضي الكردي، ففي المرة السابقة برز بقوة الزعيم الشاب صلاح الدين دميرتاش، والذي كان صاحب كاريزما وحضور لدرجة أن أوجلان نفسه شعر بالتهديد من هذا الحضور.
ولهذا كان حجم الاعتراض الكردي على اعتقاله خجولاً، ولدرجة أن النائب سري ثريا أوندير (تركماني ولكن ينشط برفقة الأكراد) بقي على نفوذه وحضوره داخل التيار الكردي رغم أن إفادته، وكما صرّح لاحقاً القيادي الكردي المطلوب للعدالة حالياً حسيب قابلان، هي التي بنى القضاء عليها ليبرر اعتقال دميرتاش، الذي لم يتخلّ عن الكثير من المواقف السياسية المعارضة لنهج الرئيس رجب طيب أردوغان.
وبالمقابل يبدو الفريق التفاوضي الكردي اليوم أكثر ليناً أمام الدولة التركية ومطالبها، وأقل تصلباً من الفريق الذي كان موجوداً يومها بزعامة دميرتاش.
وهناك نقطة تشابه مهمة تتعلق بآمال الحكومة من التفاوض. فعام 2015 كانت تسعى لأن يدعم الأكراد مشروعها لتعديل الدستور، ولكن الأكراد، وبتأثير واضح من صلاح الدين دميرتاش، وقفوا ضد مشروع تعديل الدستور الذي حوّل البلاد يومها من نظام برلماني إلى نظام رئاسي. واليوم كذلك تطمح الحكومة لكسب دعم الأكراد لمشروع وضع دستور جديد يتيح للرئيس رجب طيب أردوغان أن يترشح لدورة رئاسية ثالثة.

بناءً على ما سبق، هناك توقعات باعتقالات وعمليات أمنية بهذه الاتجاهات:
- باتجاه أتباع جماعة فتح الله غولن، وخاصة أن الكثير من المسؤولين الأتراك يعتبرون أنها لعبت دوراً مؤثراً في إسقاط العملية التفاوضية عام 2015.
- باتجاه تنظيم داعش، لأن التجارب أثبتت أنه قابل للاستغلال من قبل تنظيمات وشخصيات وأجهزة ترى أن من مصلحتها التخريب.
- باتجاه بعض التنظيمات الماركسية المتشددة، التي لا يعجبها أن «حزب العمال الكردستاني» قد يسلّم سلاحه، ولهذا قد تمارس ما هي خبيرة به، وهو تنفيذ عمليات اغتيال معقدة لشخصيات سياسية أو أمنية أو عسكرية رفيعة، وقد تكون أجنبية.
ويجدر التذكير هنا بتقرير إعلامي أفاد بأن القوى الأمنية أحبطت محاولة لاغتيال وزير الداخلية السابق سليمان صويلو، من قبل منظمة اسمها «الجبهة الشعبية لتحرير تركيا» (اصطلاحاً: اليسار الثوري) وليست نقطة عابرة أن لهذه المنظمة علاقة بالدولة الإيرانية.
وسبق أن قامت أجهزة الأمن التركية بالكثير من العمليات لإحباط الشبكات التابعة للاستخبارات الإيرانية، والتي مارست نشاطات عديدة أهمها مراقبة أهداف إسرائيلية (ربما تمهيداً لاستهدافها) وكذلك تنفيذ اغتيالات بحق شخصيات إيرانية معارضة. ولكن اليوم هناك مجال جديد من المتوقع أن تحاول ما تبقى من هذه الشبكات دخوله، وهو محاولة التأثير على العملية التفاوضية التي قد تضرّ بالأمن القومي لإيران، نظراً إلى أن هناك احتمالاً قوياً لتسرب جزء من مقاتلي «حزب العمال الكردستاني» من شمال العراق إلى الشطر الإيراني من جبال جودي وقنديل وقيامهم بنشاط انفصالي هناك. وهناك من يرى أن هذا الاحتمال هو سبب الموافقة الضمنية من قبل الولايات المتحدة على العملية التفاوضية.
ما يخشى منه الكثير من السياسيين الأتراك هو وقوع أعمال إرهابية تعيد عملية التفاوض الحالية إلى الصفر، كما جرى قبل تسع سنوات من الآن
قد تتضرر شبكات تجارة المخدرات، التي تستفيد من تدهور الوضع الأمني في مناطق جنوب وشرق البلاد. ولهذا فإن من مصلحة كبار تجار المخدرات الإضرار بعملية التفاوض. وقد يكون قرارهم أيضاً العمل على ضرب العملية. ويبقى أن الجهات هذه، من الممكن أن تظهر بينها تحالفات لحظية مؤقتة، والوضع الآن هو سباق بينها وبين قوى الأمن والإرادة السياسية الساعية لإتمام عملية التفاوض.
ولكن هنا يتوجب التوقف ملياً عند وزير الخارجية هاكان فيدان، والذي كان رئيساً للاستخبارات في خلال العملية التفاوضية الأولى عام 2005، والذي نعلم اليوم أنه كان باني اللبنات الأولى لتلك العملية عبر مفاوضات سرية مع قياديين أكراد في أوروبا.
وقد حاولت يومها جماعة غولن، التي كانت لا تزال في عز نفوذها أيام تحالفها مع أردوغان، أن تستهدفه قضائياً بحجة تلك اللقاءات. ولكن اليوم نرى أن فيدان يكاد يكون محيداً، وبعيداً عن الجو، وحتى أن التنسيق مع حكومة كردستان العراق وحكومة بغداد، من أجل إنجاز عملية إلقاء السلاح الرمزية، لم يتم عبره.
ويقال في الكواليس إن أردوغان، وبعد أن بدأت صحف ومراكز دراسات تطرح اسم فيدان كخليفة محتمل له، بعد نجاحه في إنجاز مرحلة إسقاط النظام السوري وإقامة نظام بديل حليف لأنقرة، يحرص على عدم تسليمه مسؤولية في عملية التفاوض مع الأكراد حتى لا يصبح «مهندس السلام» بعد أن نال لقب «مهندس الحكم في سوريا».
ولنتذكر أيضاً أن فيدان معروف بعمق علاقاته مع إيران، حتى أنه تعرض لانتقادات أميركية وإسرائيلية كثيرة بسبب ذلك، إيران المتوجسة بدورها، كما قلنا، من العملية التفاوضية لكونها ستشكل عبئاً أمنياً على طهران المتعبة أصلاً بسبب حجم الخروقات الكبير الذي ظهر خلال حرب الصواريخ والمسيّرات مع تل أبيب.
إن هاتين النقطتين تجعلاننا نضع في الحسبان أن فيدان قد يعمد في حال ما إذا تجاوز التحجيم الأردوغاني له حداً معيناً إلى تسهيل عملية تخريب السلام وبالطبع بالتعاون مع الإيرانيين. ألا يفعلها؟ نحن نتذكر التسجيل الصوتي، الذي تسرب عام 2013، من اجتماع حول سوريا، عندما عرض فيدان أن يرسل رجلين من عملائه إلى سوريا ليطلقا أربعة صواريخ على الأراضي التركية لتكون حجة للتدخل. حسناً، فلنسأل للمرة الثانية إذن: أحقاً لا يفعلها؟