التطبيع بين لبنان وإسرائيل: خلاص أم خيانة
هل يحتاج لبنان إلى تطبيع علاقاته مع إسرائيل كمدخل للاستقرار الأمني والاقتصادي؟
قد يعتبر البعض هذا الطرح ضربًا من الخيانة الوطنية، حتى أن فريقا في لبنان بدأ بالتلويح بـ”شبح اتفاق 17 أيار” متجاهلاً أن المشهد الإقليمي قد انقلب بالكامل بعد السابع من أكتوبر.
التطبيع بين لبنان وإسرائيل ليس سابقة، فالتجربة الأولى كانت في العام 1983 عندما وقع اتفاقية 17 أيار – مايو بين الحكومة اللبنانية وإسرائيل برعاية أميركية.
وهذا الاتفاق في جوهره شكل من أشكال التطبيع لأنه يعترف بدولة إسرائيل أولًا ومحاولته تأسيس سلام قد يكون هجيناً من الناحية الأيديولوجية لكنه بلا شك كان بإمكانه أن يشكل مدخلا أساسيا لوقف آلة الحرب وكسر حلقة العنف التي غذّاها التدخل الفلسطيني والصراعات الداخلية والطائفية.
التحذير من تكرار اتفاق 17 أيار كأداة ترهيب سياسي ليس في محلّه فاللبنانيون دفعوا على مدى عقود فاتورة غالية بسبب حالة العداء المزمنة مع إسرائيل وأوهام الانتصارات العسكرية على العدو.
ألم يكن الإمام موسى الصدر هو من رسم ببلاغة وصدق معادلة الالتزام الوطني بقوله: “تحرير الأرض واجب وطني، وتحرير فلسطين واجب الأمة.”
لبنان ليس ملزمًا بتكرار أخطاء الماضي لكنه أيضًا لا يستطيع النجاة إذا ظلّ مرتهنًا له، فالتطبيع كخيار لا يجب أن يكون تابوهًا أو محرّما خاصة بعد سقوط كل المحرّمات
بهذه الكلمات، فصل الصدر بين مسؤولية الدولة في حماية ترابها، ودور الأمة الأوسع في حمل عبء فلسطين. فلماذا لا نعيد الاعتبار لهذا المنطق؟ ولماذا لا نمنح الدولة اللبنانية، ولو مرة، فرصة السير على طريق السلام بشروط سيادية واضحة؟
ثم إن الاتفاقيات لا تُقدَّس فكما أُلغي اتفاق 17 أيار بعد عامين من إبرامه لأسباب كثيرة، يمكن العدول عن الاتفاقية الجديدة متى انتفت الجدوى. لكن الأسوأ هو الجمود، وتضييع الفرص.
والأهم أن ظروف اليوم لا تُشبه تلك التي أحاطت باتفاق 1983. حينها، كانت بيروت تحت الاحتلال، والبلاد مشرذمة تحت نيران حرب أهلية طاحنة، وسوريا تمسك مفاتيح القرار اللبناني. أما اليوم، فلا احتلال مباشرا، ولا وصاية سورية، بل توافق عربي واسع على التطبيع، تتصدّره دول كانت تُعدّ في طليعة محور الرفض.
اتفاق 17 أيار واجه رفضًا عارمًا من قوى لبنانية، أبرزها حركة أمل والجبهة الوطنية، ولاحقًا حزب الله، كما عارضته دمشق بشراسة لأنه كان ينص على انسحاب الجيوش الأجنبية من لبنان. هذه المعارضة أدت إلى إسقاط الاتفاق في الشارع، ومعه سقط أيّ نقاش لاحق في خيار السلام. وبنيت سردية وطنية كاملة على أنقاضه: كل من ينادي بالخروج من الحرب يُصنّف خائنًا، صهيوني الهوى، أو مهزومًا جبانًا.
كما أن تهمة الانهزامية تصطدم اليوم براية “انتصرنا” التي رفعتها المقاومة بينما دمّر لبنان وتحول السلاح إلى أداة تقتل اللبنانيين بدل أن تحميهم.
وهنا تبرز مسؤولية السلطة اللبنانية في مصارحة اللبنانيين حول طبيعة الاتفاقيات أو التفاهمات الضمنية مع إسرائيل، خصوصًا في ما يخص وقف إطلاق النار الأخير. ألا تتضمن بنودا غير معلنة تصب في صالح إسرائيل؟
ألا يمنح غياب الشفافية إسرائيل غطاء للاستمرار في اعتداءاتها على السيادة اللبنانية.. أم أنه ممنوع على اللبنانيين أن يسمعوا الحقيقة لأن شعار “انتصرنا” سيسقط حتمًا أمام اعتراف الدولة أن الردع اللبناني مقيّد بسبب قبول حزب الله الرضوخ للشروط الإسرائيلية؟
اتفاق 17 أيار لم يكن مثاليًا، وجاء في سياق دموي وحرب أهلية اندلعت منذ 1975، وبلغت ذروتها في حصار بيروت. لكن إسقاطه لم يأتِ بحل بديل، بل جعل لبنان ساحة لتصفية الحسابات، ومناطق نفوذ تتقاسمها الميليشيات.
لكن واقع الحال اليوم يُحتّم على اللبنانيين مواجهة الحقيقة: البلد منهك، التمويل الخارجي شحيح، والدعم الإيراني لحلفاء لبنان يتآكل بفعل العقوبات والصراعات الإقليمية والضغط الأميركي، ومن هنا تبرز أهمية توحيد الجبهة اللبنانية لردع شبح الحرب الأهلية التي يلوّح بها كل من يخوّن طالبي السلام.
تهمة الانهزامية تصطدم اليوم براية “انتصرنا” التي رفعتها المقاومة بينما دمّر لبنان وتحول السلاح إلى أداة تقتل اللبنانيين بدل أن تحميهم
فالذل ليس بإبرام اتفاق سلام يقر ويعترف باختلال ميزان القوى لصالح إسرائيل، الذل هو المكابرة والإصرار على خيار مسلّح يدّعي القدرة على إنهاء الوجود الإسرائيلي بينما من يسمّى بالعدو يسرح ويمرح في أجواء لبنان في ظل صمت مريب. الذل هو أن يدفع اللبنانيون الشرفاء نفس الثمن عشرات المرات دون نتيجة في ظل غياب أمل لغد أفضل.
من المفارقات العميقة أن نستعيد ما قالته رئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مائير: “سنحقق السلام مع العرب فقط عندما يحبّون أبناءهم أكثر ممّا يكرهوننا.”
هذه الجملة التي طالما استُخدمت لتبرير عنف الاحتلال، تفضح أيضًا منطقًا معكوسًا في الداخل اللبناني، إنها ليست مسألة حبّ أو كراهية، بل مسألة استهتار مقنّع بالبطولة.
وما يثير الدهشة أن لبنان، الدولة المضيفة لمبادرة السلام العربية في قمة بيروت عام 2002 لم يُجِز لنفسه يومًا أن يتبنّى ما طرح باسمه.
تلك المبادرة التي شكّلت أول خارطة طريق عربية واضحة نحو السلام، وضعت إسرائيل أمام معادلة انسحاب مقابل تطبيع شامل، وقدّمت بذلك رؤية عربية جامعة تعترف بالواقع وتطمح لتحقيق الحد الأدنى من العدالة.
لكن لبنان، اختار أن يتنكر لمبادرة خرجت من عاصمته، بينما انخرطت عواصم عربية كبرى في مسارات تفاوض. والواقعية السياسية تقول إن الحسم العسكري أمام إسرائيل، بمنطق الجيوش التقليدية، شبه مستحيل وهذا ما أثبتته التجربة من نكبة 1948، ونكسة 1967، إلى حرب أكتوبر 1973 كمحاولة عربية أخيرة لتعديل ميزان القوى عسكريًا وصولا إلى المواجهة الأخيرة مع محور كامل على سبع جبهات..
في المقابل، المنطقة تغيرت وقطار التطبيع انطلق، حيث فتحت اتفاقات أبراهام بابًا واسعًا أمام دول عربية لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل، وجنى بعضها ثمارًا اقتصادية وإستراتيجية ملموسة.
في هذا السياق، لا يُمكن للبنان أن يبقى أسير خطاب أيديولوجي متحجر، بينما شعبه يرزح تحت وطأة الفقر والانهيار. فالتطبيع، إذا أُدرج ضمن رؤية وطنية واضحة تحفظ السيادة وتخدم المصالح العليا، قد يشكّل خطوة في اتجاه إعادة التموضع الإقليمي وتحقيق بعض الاستقرار.. فوحده الاستقرار بوابة للاستثمار والنهوض من كبوة حروب خاسرة تحت شعارات يستحيل تحقيقها.
لبنان ليس ملزمًا بتكرار أخطاء الماضي، لكنه أيضًا لا يستطيع النجاة إذا ظلّ مرتهنًا له. التطبيع، كخيار، لا يجب أن يكون تابوهًا أو محرمّا خاصة بعد سقوط كل المحرّمات، بل ملف سيادي يناقش بشفافية، ويُقارب من منطلق وطني لا طائفي. فإذا كانت الدولة عاجزة عن الحرب، ومكبّلة عن السلام، فإلى أين تمضي بلبنان؟