التضخم يعاند جهود تركيا لتحسين المؤشرات الاقتصادية
في الوقت الذي تسعى فيه تركيا إلى ترميم اقتصادها وتعزيز ثقة الأسواق بعد سنوات من التقلبات، يقف التضخم كعقبة عنيدة في وجه تلك الطموحات. فبالرغم من تغيير السياسات النقدية وعودة البنك المركزي إلى أدواته التقليدية، لا تزال معدلات التضخم عند مستويات مقلقة، تعكس عمق الاختلالات البنيوية في الاقتصاد التركي.
إسطنبول - تظهر أحدث الإحصائيات التي صدرت الجمعة أن التضخم لا يزال يشكل التحدي الأكبر الذي يعاند الجهود الحثيثة التي تبذلها الحكومة التركية والبنك المركزي منذ سنوات لتحقيق الاستقرار الاقتصادي واستعادة ثقة المستثمرين.
وشهدت تركيا معدلات تضخم قياسية خلال السنوات الأخيرة، مدفوعة بعوامل متعددة، أبرزها تراجع قيمة الليرة، وارتفاع تكاليف الاستيراد، والسياسات النقدية غير التقليدية التي أثارت جدلاً داخليًا وخارجيًا.
وبينما تسعى إلى تحسين مؤشرات النمو وجذب الاستثمارات الأجنبية وتعزيز احتياطاتها من النقد الأجنبي، تواصل الأسعار صعودها بوتيرة تهدد القوة الشرائية للأتراك وتضغط على الأسواق والقطاعات الإنتاجية.
وسجّلت معدلات التضخم ارتفاعا طفيفا في سبتمبر لتصل إلى 33.29 في المئة على أساس سنوي، مقارنة مع 32.95 في المئة بنهاية أغسطس، وذلك للمرة الأولى منذ أكثر من عام، بحسب أرقام رسمية صدرت الجمعة.
ويُعد هذا الارتفاع “مخيّبا للآمال”، وفق محللين، بعد حوالي 16 شهرا متواصلا من التراجع جراء التحول في السياسات النقدية عقب إعادة انتخاب رجب طيب أردوغان رئيسا للبلاد في مايو 2023.
وبحسب معهد الإحصاء التركي (تويك)، ارتفعت الأسعار على أساس شهري بنسبة 3.23 في المئة خلال سبتمبر، مع زيادة ملحوظة بلغت 8.6 في المئة في أسعار المواد الغذائية و7.85 في المئة في تكاليف السكن.
وتبدو محاولات تهدئة الأسواق وتبديد مخاوف المستثمرين محفوفة بالتحديات، في ظل استمرار تآكل القوة الشرائية وارتفاع تكاليف المعيشة، ما يجعل من السيطرة على التضخم اختبارًا حاسمًا لجدية الإصلاحات وقدرتها على تحقيق نتائج ملموسة.
وعلى مدى الأشهر الاثني عشر الأخيرة، ارتفعت أسعار الغذاء 36 في المئة والسكن 51 في المئة والتعليم 66 في المئة.
وقال تيموثي آش المتخصص في أسواق الدول الناشئة في لندن، إن “الأسعار المعروضة والأسعار الأساسية وأسعار الإنتاج جميعها خيّبت الآمال في سبتمبر.”
واعتبر أن السبب يعود إلى “الخفض المبكر والجذري” لأسعار الفائدة من جانب البنك المركزي.
وكان المركزي قد خفّض سعر الفائدة الرئيسي في سبتمبر من 43 في المئة إلى 40.5 في المئة بعد خفض بمقدار ثلاث نقاط في يوليو. ورأى آش أن البنك “فقد جزءا من المصداقية التي أعاد بناءها بمشقة.”
وجاء معدل التضخم في أغسطس أعلى من توقعات الاقتصاديين البالغة 33 في المئة، كما ظلّ قوياً النمو في الربع الثاني، والذي لم يشمل عودة البنك المركزي إلى تيسير السياسة النقدية في يوليو، ما أشار آنذاك إلى صمود الطلب الاستهلاكي.
33.29
في المئة نسبة التضخم بنهاية سبتمبر بمقارنة سنوية، مقارنة مع 32.95 في المئة بنهاية أغسطس
من جهته اعتبر جيسون توفي، المحلل لدى شركة كابيتال إيكونوميكس في لندن، أن ارتفاع التضخم “قد يدفع المركزي إلى المزيد من الحذر،” لكنه توقع رغم ذلك خفضا جديدا للفائدة قبل نهاية العام الجاري.
وفي الشهر الماضي خفضت أنقرة توقعاتها للناتج المحلي الإجمالي، في إشارة إلى أن الحكومة تعطي الأولوية لاستقرار الأسعار على حساب النمو السريع.
ويُظهر البرنامج متوسط الأجل الجديد أن الاقتصاد سينمو بنسبة 3.3 في المئة خلال العام الجاري و3.8 في المئة في العام المقبل، انخفاضاً من توقعات العام الماضي البالغة 4 و4.5 في المئة على التوالي.
وتتجاوز تقديرات العام المقبل متوسط توقعات الاقتصاديين في استطلاع أجرته بلومبيرغ، والبالغ 3.5 في المئة، لكنها تظل أقل بكثير من متوسط النمو البالغ نحو 5 في المئة خلال العقدين الماضيين.
ويُعد ذلك، بالنسبة إلى الكثيرين، دليلاً على أن صنّاع السياسات يُعطون الأولوية لكبح التضخم، الذي يتجاوز حالياً ستة أضعاف الهدف الرسمي البالغ خمسة في المئة.
ومن المرجح أن تتطلب هذه المقاربة الحذرة تخفيفاً تدريجياً في السياسات النقدية من قبل المركزي، الذي بدأ خفض أسعار الفائدة في يوليو.
وقد تبيّن أن احتواء التضخم من دون دفع الاقتصاد، البالغ حجمه 1.4 تريليون دولار، نحو الركود هو مهمة شاقة بالنسبة إلى تركيا.
وتشكو الشركات من أن ارتفاع تكاليف الاقتراض قلّص أرباحها، في حين لا تزال الأسر تتوقع بقاء التضخم عند مستويات مرتفعة، وتواصل الإنفاق بوتيرة أعلى من المتوقع.
ويُتوقع أن يختتم التضخم في العام الحالي عند 28.5 في المئة، على أن ينخفض إلى 16 في المئة خلال عام 2026، وهي مراجعة حادة مقارنة بتقديرات العام الماضي التي كانت عند 17.5 و9.7 في المئة على التوالي.
وقدّر البنك المركزي، في توجيهاته لشهر أغسطس، أن التضخم في نهاية عام 2025 سيكون ضمن نطاق يتراوح بين 25 و29 في المئة.
كما رفعت الحكومة تقديراتها لعجز الميزانية، وتتوقع أن يبلغ العجز 3.6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، أي بزيادة نصف نقطة مئوية عن توقعاتها السابقة.
وكان وزير الخزانة والمالية، محمد شيمشك، قد فرض ضرائب جديدة على الأسر والشركات لمواكبة الإنفاق المرتفع، الذي يُعزى جزئياً إلى حملة إعادة إعمار ضخمة في جنوب شرق البلاد عقب زلزالين مدمرين ضربا المنطقة عام 2023.
وهزّت الأزمة السياسية التي تعيشها تركيا منذ أسابيع الأسواق، حيث زادت من حالة عدم اليقين في التوقعات الاقتصادية والمالية للبلاد، ما أدى إلى زيادة تدفقات رأس المال إلى الخارج.
وبدلا من السماح لسعر صرف الليرة بالتعديل قرر البنك المركزي تثبيت العملة عبر بيع كمية كبيرة من احتياطيات النقد الأجنبي.
وقدّر اقتصاديون أن المركزي أنفق نحو 50 مليار دولار من احتياطياته لدعم الليرة ومنعها من الانزلاق مع تصاعد التوترات السياسية داخلياً، وتزايد المخاوف الخارجية من تداعيات الرسوم الأميركية على تركيا ودول أخرى.
وفي غضون ذلك حامت الليرة خلال تعاملات الجمعة بالقرب من أدنى مستوياتها على الإطلاق، والتي تم تسجيلها الأسبوع الماضي رغم محاولات الدعم المتكررة التي يقوم بها المركزي التركي، عبر مبيعات الدولار في السوق.
وارتفع سعر صرف الدولار الأميركي في أحدث التداولات أمام العملة التركية بنسبة 0.15 في المئة ليبلغ حوالي 41.68 ليرة.
