البلقان في قلب الرؤية الإماراتية

جولة الشيخ محمد بن زايد أكثر من “دبلوماسية نشطة” إنها إعلان ضمني عن تموضع إماراتي إيجابي في الجغرافيا السياسية للقارة الأوروبية وتأكيد أن أبوظبي باتت نقطة ارتكاز في زمن التحولات الكبرى.
الخميس 2025/07/24
دبلوماسية نشطة وذكية

خلال أقل من يومين، تحرّكت السياسة الإماراتية بخطى واثقة من الخليج إلى البلقان، لتؤكد مجددًا أن الدور الإماراتي لا يعرف الجغرافيا بل يعرف التأثير.

في السياسة الدولية، لا تكفي السرعة وحدها لصنع التأثير، بل الرؤية التي توجه هذه السرعة، والقدرة على تحويل الحضور إلى فعل، واللقاء إلى شراكة. ومن يتابع الجولة الأخيرة لرئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، التي شملت تركيا وألبانيا وصربيا والمجر، خلال أقل من 48 ساعة، يكتشف ملامح سياسة خارجية جديدة، تتجاوز أطر “الزيارات الرسمية”، لتؤسس لشبكة تأثير إستراتيجي متكاملة بين الخليج والبلقان.

هذه الجولة ليست عابرة في توقيتها أو أهدافها. ومنذ دخول العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، تبنت الإمارات مرحلة جديدة من الدبلوماسية الذكية، لم تعد تكتفي فيها بكونها قوة اقتصادية صاعدة أو مركزًا ماليًا عالميًا، بل باتت لاعبًا دوليًا يصنع الفرق في ملفات الاستقرار الإقليمي والتنمية العابرة للحدود.

الجولة الأخيرة تضع منطقة البلقان في صميم الاهتمام الخليجي، ليس فقط من بوابة التعاون الثنائي، بل ضمن مقاربة جيوسياسية متقدمة ترى أن الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية لم يعودا فضاءين منفصلين، بل ساحة واحدة من الفرص والتحديات المتداخلة. ولعل أبرز ما يميز هذه المقاربة أنها لا تستند إلى الأيديولوجيا أو النفوذ العسكري، بل إلى أدوات الشراكة الاقتصادية، واستثمار الثقة، وصياغة حلول قائمة على المصالح المشتركة.

الشيخ محمد بن زايد لا يذهب إلى هذه الدول كـ"مانح"، بل كشريك. ولا يطرح نفسه كوسيط فقط، بل كمبادر يقترح حلولًا تخرج العلاقات الدولية من نمطها الصراعي إلى فضاء من التفاهم والتنمية

في أنقرة، تترسخ شراكة إستراتيجية بين الإمارات وتركيا، كفاعلين إقليميين تجاوزا تعقيدات الماضي، ويعيدان اليوم كتابة معادلة التأثير في الشرق الأوسط والبلقان. وفي تيرانا وبلغراد وبودابست، تؤكد الإمارات أن علاقتها بالقارة الأوروبية ليست حكرًا على العواصم الكبرى، بل تشمل الفضاءات الصاعدة التي تمثل مستقبل القارة.

لكن لماذا البلقان؟ لأن هذه المنطقة، التي كانت يومًا ساحة لصراع القوى العظمى، أصبحت اليوم نقطة وصل بين شرق أوروبا وغربها، وبين جنوبها وشمالها، وممرًا حيويًا لمشاريع الطاقة والنقل والاتصال. كما أنها منطقة واعدة بالموارد الطبيعية والبشرية، لكنها تحتاج إلى شريك موثوق يقدّم لها الاستثمار لا التدخل، والدعم لا التبعية. وهنا، تبرز الإمارات كخيار مفضل، لا يفرض نفسه بالقوة، بل يحضر بثقة ورؤية طويلة الأمد.

ما يفعله الشيخ محمد بن زايد اليوم، هو تعميق هذا الحضور، ليس عبر الكلمات فقط، بل من خلال الاتفاقيات، والاستثمارات، ومشاريع الطاقة والبنية التحتية، والتعاون في مجالات الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا، وهو ما ظهر جليًا في اتفاقيات الإمارات مع كبرى الشركات في المجر وتركيا ودول البلقان.

لكن الأهم من كل ذلك، هو أن هذه السياسة تنبع من نموذج إماراتي واضح في الحوكمة والعلاقات الدولية، يستند إلى المبادئ العشرة للخمسين سنة المقبلة، والتي وضعت أسسًا لدبلوماسية متجددة: تحترم السيادة، ترفض الاستقطاب، وتؤمن بأن السلام الحقيقي لا يُفرض، بل يُبنى عبر الثقة والتعاون المتبادل.

وهنا يتبين الفارق بين دبلوماسية الإمارات ودبلوماسية الكثير من القوى التقليدية. فبينما تنشغل بعض العواصم بسباق النفوذ، تعمل أبوظبي على هندسة التوازن. وبينما تُستخدم ملفات الطاقة والهجرة والديون كسلاح ضغط، تفتح الإمارات أبوابها لعلاقات قائمة على التمكين المتبادل.

الشيخ محمد بن زايد لا يذهب إلى هذه الدول كـ”مانح”، بل كشريك. ولا يطرح نفسه كوسيط فقط، بل كمبادر يقترح حلولًا تخرج العلاقات الدولية من نمطها الصراعي إلى فضاء من التفاهم والتنمية. وهذه الرسائل لا تمر فقط في المباحثات المغلقة، بل في الصورة الأوسع التي تلتقطها الشعوب، وتدرك عبرها أن السياسة ليست حكرًا على الكبار عددًا، بل على الكبار رؤيةً وتأثيرًا.

جولة الشيخ محمد بن زايد تحمل في طياتها أكثر من “دبلوماسية نشطة”. إنها إعلان ضمني عن تموضع إماراتي إيجابي في الجغرافيا السياسية للقارة الأوروبية، وتأكيد أن أبوظبي، بقيمها ورؤيتها وقيادتها، باتت نقطة ارتكاز في زمن التحولات الكبرى، والدبلوماسية الإماراتية مدرسة ومنهج، ويمكن أن ترقى لتكون جامعة لأفضل الممارسات الدبلوماسية الإنسانية الذكية.

8