الإعدامات الميدانية في غزة: وسيلة قصاص أم ترهيب

لا يمكن لحركة تحاكم أبناء شعبها في الشوارع أن تدّعي تمثيل قضية الحرية فالحرية لا تُبنى على المقاصل والمقاومة التي تتحول إلى سلطة غاشمة تفقد جوهرها.
الجمعة 2025/10/24
استنساخ لمنطق الجماعة فوق الدولة

في الأيام الأخيرة عادت مشاهد الدم إلى شوارع غزة، لكن هذه المرة لم تأتِ من غارات إسرائيلية، بل من بنادق “المقاومة” نفسها. فقد أقدمت حركة حماس على تنفيذ سلسلة من الإعدامات الميدانية قالت إنها طالت “عملاء ومجرمين”، وإنها تمت “بعد استيفاء الإجراءات القانونية”، غير أن ما جرى في الحقيقة لم يكن سوى استعراض جديد للقوة في لحظة تفلت فيها السيطرة، ومحاولة لإعادة ترميم صورة مهترئة أمام شارع غاضب يضيق بها يومًا بعد يوم.

الاشتباكات التي اندلعت بين مسلحي الحركة وأفراد من عشيرة دغمش لم تكن حادثًا معزولًا، بل انعكاسًا مباشرًا لانهيار الثقة بين سلطة الأمر الواقع والمجتمع الذي تمسك بخناقه منذ أكثر من عقد ونصف. فحين تصبح البنادق وسيلة لضبط الداخل، وحين يُستبدل القضاء بالميدان، يمكن القول إن حماس لم تعد تقاتل إسرائيل فقط، بل تقاتل فكرة المجتمع نفسه.

في الواقع، تحاول الحركة استباق انفجار شعبي وشيك عبر سياسة التخويف والتخوين، وهي الوصفة القديمة التي استخدمتها أنظمة وسلطات في المنطقة كلما شعرت بأن الأرض تميد تحتها. عمليات الإعدام العلنية والبيانات المشحونة بالمفردات الدينية والوطنية ليست سوى أدوات لإعادة بسط السيطرة الرمزية في وقت لم تعد تمتلك فيه السيطرة الفعلية على معاناة الناس، ولا على مسار الحرب التي تزداد عبثًا كل يوم.

ما يغيب عن خطاب حماس هو الحقيقة التي يعرفها الغزيون أكثر من غيرهم: أن الكارثة الإنسانية التي يعيشها القطاع لا يمكن تبريرها بأي سردية مقاومة. كل يوم تؤجَّل فيه لحظة تخلي الحركة عن الحكم هو يوم إضافي من الغرق في المجهول، ويوم جديد يُخصم من رصيد الأمل في حياة طبيعية لمليوني إنسان سُجنوا في جغرافيا صغيرة وذاكرة أكبر من طاقتهم على الاحتمال.

حين تقيم حماس محاكمات ميدانية وتنفذ أحكام الإعدام في الشوارع فإنها تكرس نموذجًا شبيهًا بما رأيناه في تجارب الجماعات الجهادية المسلحة من طالبان إلى داعش

حين تقيم حماس محاكمات ميدانية وتنفذ أحكام الإعدام في الشوارع، فإنها تكرس نموذجًا شبيهًا بما رأيناه في تجارب الجماعات الجهادية المسلحة من طالبان إلى داعش، مرورًا بجبهة النصرة وبوكو حرام وحركة الشباب. إنها “أفغنة” لقطاع غزة، واستنساخ لمنطق الجماعة فوق الدولة، والسلاح فوق القانون، والبيعة فوق العقد الاجتماعي.

حتى لو افترضنا صحة التهم المنسوبة إلى من أُعدموا، فإن العدالة لا تكون عدالة إلا حين تستوفي شروطها: محاكمة علنية، دفاع، أدلة دامغة، وحكم يصدر باسم القانون لا باسم “المقاومة”. وما دام الحكم يُنفذ في الشارع أمام الكاميرات، فليس الهدف إحقاق العدالة، بل بث الرعب وإرسال رسالة بأن الحركة وحدها صاحبة الحق في تحديد من يعيش ومن يُعدم.

لكن السؤال الأعمق يظل مطروحًا: من يحاسب حماس نفسها؟ من يفتح ملف السنوات التي ضاعت بين الشعارات والدماء، وبين إدارة عسكرية وسياسة مأزومة لم تقدم لغزة سوى الحصار والموت والفقر؟ من يحاسبها على هذه الحرب الأخيرة التي لم تنتهِ بانتصار ولا بهدنة كريمة، بل بانهيار اجتماعي واقتصادي شامل؟

السؤال عن محاسبة حماس لا يتعلق فقط بنتائج الحرب الأخيرة، بل بطبيعة السلطة التي بنتها الحركة داخل القطاع. فمنذ أن أمسكت الحكم، تحوّل مشروع المقاومة إلى إدارة مغلقة تستمد شرعيتها من خطابٍ تعبوي، لا من عقدٍ سياسي واضح. كل خسارة تُبرَّر بمعركةٍ مؤجلة، وكل مأزقٍ يُعلَّق على الحصار، حتى صار الزمن نفسه أداة في تبرير العجز.

سكان القطاع الذين أنهكتهم الحروب والحصار والبطالة لم يعودوا يرون في حماس حركة مقاومة، بل سلطة تمارس القمع وتخاف من الناس أكثر مما تخاف من الاحتلال. المجتمع الدولي يدين الإعدامات، والناس في الداخل يتهامسون: من يحمينا من “محررينا”؟

في النهاية، لا يمكن لحركة تحاكم أبناء شعبها في الشوارع أن تدّعي تمثيل قضية الحرية. فالحرية لا تُبنى على المقاصل ولا تُصان بالدم، والمقاومة التي تتحول إلى سلطة غاشمة تفقد جوهرها وتصبح نسخة أخرى من خصمها.

غزة اليوم لا تحتاج إلى مزيد من الشعارات، بل إلى شجاعة الاعتراف بأن من قادها إلى الهاوية ليس الاحتلال وحده.

7