استنساخ سيناريو أحمد الشرع في العراق: بين رعب السلطة وانتظار المعارضة

في منطقتنا ليس غريبًا أن يتحول أمراء الحرب إلى قادة سياسيين بل الغريب ألا يتحولوا، هذا ما جرى في لبنان بعد الحرب الأهلية وما نشاهده في ليبيا وقد تكرر في العراق.
الثلاثاء 2025/09/02
مختار العصر

في مرحلة إعادة تشكيل مشروع “الشرق الأوسط الجديد” تتسابق الجماعات الإسلامية لخلع عباءتها الطائفية وارتداء البدلة والربطة على الطريقة الأردوغانية، سعيًا للهيمنة على السلطة السياسية. فكما أُنزل أحمد الشرع بالمظلات التركية على دمشق، يتوهم الكثيرون ممّن صنّفوا أنفسهم في خانة “المعارضة” العراقية للسلطة الموالية لإيران أن بإمكانهم هم أيضًا أن ينالوا نصيبًا من الحظ، مثلما ناله الرئيس السوري الجديد، في ظل المعادلات السياسية الجديدة التي يجري رسمها في هذا “الشرق الأوسط الجديد”.

لا شك أن سلطة الإسلام السياسي الشيعي في العراق تمضي بالبلاد نحو تأسيس دولة استبدادية قمعية، سواء كانت بوصلتها متجهة نحو إيران أو بدأت تميل هذه الأيام نحو الولايات المتحدة، التي باتت صاحبة اليد الطولى في العراق والمنطقة بفضل تحالفها مع إسرائيل ومشروعهما المشترك المسمى “الشرق الأوسط الجديد”. ما نشهده اليوم، في ظل هذا الوضع السياسي، هو حملة اعتقالات سياسية متواصلة بحق كل من ينتقد السلطة القضائية أو الحكومة، عبر فبركة التهم واختراع تشريعات قانونية وفتاوى قضائية متهالكة، تحت عناوين عفا عليها الزمن ولم تعد تنطلي على أحد، مثل: “تضليل الرأي العام”، “نشر الفوضى في المجتمع”، و”تهديد السلم المجتمعي”. وقد كشفت قضية الدكتورة بان زياد، التي اغتيلت وأُغلق ملفها بدم بارد، عن هذا النهج الخطير، حيث رُفعت دعاوى كيدية ضد كل من انتقد قرار المحكمة بحجة “تضليل الرأي العام”. في حين أن من حق أيّ مواطن الطعن في القرارات القضائية والمطالبة بفتح تحقيقات جديدة. لكن الحقيقة أن السلطات السياسية العراقية، بكل أركانها القضائية والتنفيذية والتشريعية، هي التي تعمل على تضليل الرأي العام للتستر على الجريمة المنظمة والفساد.

ما صرّح به رئيس الوزراء محمد شياع السوداني أمام بعض ممثلات منظمات المجتمع المدني عن “حرص الحكومة على حقوق النساء” محاولة فاشلة لاحتواء الغضب الجماهيري تجاه ملف الاغتيال المذكور، وفي الوقت ذاته دعاية انتخابية، ومسعى لتغطية الصدع بين السلطتين التنفيذية والقضائية بعد التراجع عن تشكيل لجنة تحقيق مستقلة.

في ظل الأجواء القمعية، من الطبيعي أن تخشى الأصوات المعارضة القمع والبطش، وتغادر البلاد لتشكيل معارضة في الخارج. غير أن ما نراه اليوم هو بروز جماعات وشخصيات تدّعي “المعارضة”، كانت جزءًا من العملية السياسية بعد غزو العراق واحتلاله عام 2003، وسجلّها لا يختلف عن سجلّ أحمد الشرع، الذي ادعى تمثيل المعارضة السورية. وقد سُلطت الأضواء الإعلامية عليها لتعلن عن تشكيل ما يسمى بـ”المجلس الوطني للمعارضة”، يقوده عبدالناصر الجنابي، النائب السابق وعضو جبهة التوافق “السنية” حينذاك، المتهم بتصريحات طائفية والتحريض على قتل أكثر من مئة شخص على أساس الانتماء المذهبي الشيعي إبان الحرب الأهلية عام 2007، وصاحب شتائم طائفية معروفة داخل البرلمان، لم يتمكن أحد من منافسته فيها سوى شخصين: النائبة حنان الفتلاوي، صاحبة معادلة “6 في 6″، التي قالت “إذا قُتل 6 من الشيعة فيجب قتل 6 من السنة،” والثاني نوري المالكي، الذي تزعّم قائمة دولة القانون، التي كانت الفتلاوي عضوا فيها، عندما صوّر قمع الاحتجاجات في المنطقة الغربية بأنه حرب بين الحسين ويزيد، ولقّب نفسه بـ”مختار العصر” تيمّنًا بالمختار الثقفي (1 هـ / 622 م – 67 هـ / 687 م)، صاحب شعار “يا لثارات الحسين”، الذي خاض تحت رايته حربًا دموية مع الأمويين من أجل السلطة، كما فعل المالكي في تصفية معارضيه السياسيين.

◄ المنظومة الحاكمة، في العراق التي بدأت تعدل بوصلتها باتجاه النفوذ الأميركي، منقسمة داخليًا وتحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه مما خسرته في مرحلة شعارات "المقاومة والممانعة"

في منطقتنا، ليس غريبًا أن يتحول أمراء الحرب إلى قادة سياسيين، بل الغريب ألا يتحولوا. هذا ما جرى في لبنان بعد الحرب الأهلية، وما نشاهده في ليبيا، وقد تكرر في العراق. فمن كان يتصور أن أحمد الشرع، الذي رُصدت مكافأة قدرها 10 ملايين دولار لرأسه، ومطلوب للعدالة من قبل الجماهير العراقية والسورية، تُمحى جرائمه الجنائية ويُعاد تأهيله ليكون حاكمًا لسوريا بشرط ضمان مصالح الغرب، وخاصة الولايات المتحدة وإسرائيل؟

لكن العراق ليس سوريا، والنظام فيه ليس كنظام بشار الأسد. خلال ما يقارب عقدين منذ الغزو والاحتلال، رُبط العراق بالسوق الرأسمالية العالمية، واحتل موقعًا في تقسيم الإنتاج الرأسمالي العالمي، أي في صناعة النفط، وشُرّعت عشرات القوانين لتسهيل حركة رأس المال وتراكمه. تتفق الأقطاب الإقليمية والعالمية على الحفاظ على النظام السياسي في العراق، مع سعي بعض الأطراف إلى تغيير وجهة بوصلته السياسية. كما تتفق هذه الأقطاب على أن أداة التغيير الوحيدة هي عبر آلية الانتخابات القادمة.

بغض النظر عمّا ستؤول إليه حالة الاستقرار السياسي واحتدام صراع الأقطاب الإقليمية، مثل تركيا وإيران، والتناقضات في بنية النظام السياسي في بغداد، فضلاً عن ميلان كفة الميزان إلى أيّ طرف، فإن الولايات المتحدة والأقطاب العالمية الأخرى غير مستعدة لوضع النظام السياسي في العراق بيد قوى مجهولة، كما حدث في سوريا. صحيح أن أحمد الشرع يحاول الانفصال عن تاريخه الإسلامي الدموي وطيّ هذا الملف والتنصل من جرائمه في العراق وسوريا عبر مقولة “عفا الله عما سلف،” وقد قدّم أوراق اعتماده لدى إسرائيل والولايات المتحدة وجميع الأقطاب الإقليمية والعالمية، لكن التوبة وحدها لن تسعفه، ولن تنقل سوريا إلى بر الأمان. فما زال مبكرًا الحديث عن المسار الذي تسلكه سوريا لتصل إلى ما وصل إليه العراق في الاندماج بالسوق الرأسمالي العالمي وعملية تقسيم الإنتاج، رغم رفع الحصار والعقوبات الاقتصادية والوعود بضخ المليارات من الدولارات في السوق الاستثمارية السورية، وتحرير السوق، وتشريع القوانين الاقتصادية.

هذا ما لا تريد أن تفهمه المعارضة التي تخفي لباسها الطائفي تحت البدل وربطات العنق التي يرتديها الجنابي وجماعته. بصيغة أخرى، فإن هذه المعارضة، التي رفعت يافطة كبيرة باسم “المجلس الوطني للمعارضة”، وأغرقت الفضاء الإعلامي بالدعاية وتضخيم الذات، لا تملك مقومات تغيير حقيقي. فهي تراهن على أموال بعض الدول الإقليمية ودعم إعلام مأجور، وتعمل كأداة لتحقيق مصالح تلك الدول، وفي مقدمتها تركيا. بصيغة أخرى، يمكن القول إن هذا النوع من المعارضة ليس أكثر من كاريكاتور سياسي، وأداة تهديد وضغط بيد تركيا، التي دخلت موسم حصادها السياسي لتكون طرفًا في إعادة ترتيب المعادلة السياسية في العراق، أسوة بأميركا وإيران.

أما المنظومة الحاكمة في العراق، التي بدأت تعدل بوصلتها باتجاه النفوذ الأميركي، فهي منقسمة داخليًا وتحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه ممّا خسرته في مرحلة شعارات “المقاومة والممانعة”، عبر تأجيل التصويت على قانون الحشد الشعبي والمطالبة سرًا ببقاء القوات الأميركية، رغم إعلان الأخيرة الانسحاب في سبتمبر الجاري. هذه المنظومة لا تملك سوى العزف على الوتر الطائفي والتهويل من الخطر القادم، مدّعية أنها مستهدفة بسبب هويتها الشيعية، وملأت حسابات التواصل الاجتماعي ببكائيات على “مظلومية الشيعة” من جديد، وطرحت أسئلة غير بريئة: لماذا تنتقدون السلطة الشيعية والقضاء الشيعي والحكومة الشيعية فقط؟ لماذا لا تنتقدون أحزاب كردستان أو القوى السياسية في المنطقة الغربية؟ كل ذلك بعدما خفت بريق شعار “المقاومة والممانعة”، أو بالأحرى انهار.

أما أصوات أخرى، تظن نفسها أكثر ذكاءً من أصحاب الأبواق الطائفية (أو هكذا اتفقوا على تقسيم الأدوار)، فقد أضافت نكهة لا طعم لها ولا رائحة على خطابها الطائفي، محذرة من “حزب البعث قادم” و”إياكم من البعثيين” وما إلى ذلك من الترهات.

كل هذا المشهد، الذي يثير السخرية والاستهجان، يكشف عن هشاشة السلطة ومعارضيها معًا، ويؤكد خواءهم الفكري والسياسي، وغياب أيّ بديل ينسجم مع مصالح الغالبية العظمى من الجماهير، وينتشلهم من وحل الفساد والفقر والبطالة والعوز وانعدام الآفاق المستقبلية. في النهاية، لا تملك هذه المعارضة أي حظوظ حقيقية في مستقبل العراق، فهي لا تمثل صوت العمال والكادحين الذين يرزحون تحت الفقر والبطالة وانعدام الخدمات، ولا تعكس تطلعات النساء في المساواة ووقف الاغتيالات السياسية والعنف المنفلت ضدهن، ولا تمثل صوت أكثر من 12 مليون عاطل عن العمل، ولا تسعى لإخراج العراق من قبضة إيران وأميركا وتركيا.

أما السلطة القائمة، فهي تدرك هذه الحقيقة، لكنها مرعوبة من انتفاضة جديدة، لأنها تعرف جيدًا أن المعارضة الحقيقية هي تلك الجماهير التي انهالت عليها بالتخوين وإطلاق الشتائم مثل “أبناء السفارات” في أيام انتفاضة تشرين، في الوقت الذي حيكت فيه كل مسلسلات القتل والاغتيالات بحق الناشطين والفاعلين داخل السفارة التي كانت وكرًا للاستخبارات والحرس الثوري الإيراني. ولذلك، تلجأ هذه السلطة إلى استخدام هذه الجماعات، أي ذلك النوع من المعارضة الكاريكاتورية، لقمع أي صوت معارض.

9