احتفال بنكهة مفقودة
اكتشفتُ مصادفةً أن للتفاح عيدًا يُحتفل به في الحادي والعشرين من أكتوبر كل عام، وأن هذا الاحتفال يُطفئ اليوم شمعته الخامسة والثلاثين، منذ أن انطلقت المملكة المتحدة في تنظيمه، بهدف الحفاظ على التنوع الزراعي المحلي، في مواجهة غزو خارجي لأنواع بدأت تهيمن على الأسواق وتحلّ محلّ النكهات الأصلية آنذاك.
هذه المصادفة فتحت أمامي نوافذ من التأمل في تلك الثمرة التي هزّت العالم، وغيرت قوانين الأرض والسماء. الثمرة التي يتفاخر بها التونسيون بقولهم إنها “تفوح وترد الروح للروح”، والتي تحولت، بمرور الزمن، من فاكهة موسمية إلى أيقونة رمزية متشابكة في الموروث والأسطورة والعلوم وحتى التكنولوجيا.
أثارني أن المملكة المتحدة أطلقت هذا العيد حفاظًا على نكهة محلية ومذاق وطني خاص، لكنهما تحوّلا اليوم إلى مطلب عالمي. لا شيء يشبه الأمس: لا التفاح ولا النكهات. كل شيء تغيّر. طعم مختلف باختلاف العصر.
صرنا نعيش في زمن تحكمه السرعة، وتؤمّنه الزراعة الصناعية التي وفرت التفاح على مدار السنة، لكنه تفاح بلا ذاكرة، بلا تربة، بلا موسم، بلا قصص… تفاح “معلّب” شكليًا، مفرغ شعوريًا.
وتساءلت: ماذا لو لم يتعجّل آدم وحواء الأكل من شجرة الخلود؟، ماذا لو لم تسقط تلك الثمرة المستديرة على رأس نيوتن، فتولد منها قانون الجاذبية؟، ماذا لو لم تقضم بياض الثلج قضمة من تفاح زوجة أبيها المسموم؟
وهل كان لستيف جوبز – أقصد عبداللطيف الجندلي، سوري الأصل – أن يتخذ التفاحة شعارًا لثورة تكنولوجية، لولا هذا الإرث الرمزي المتراكم في اللاوعي البشري؟
المملكة المتحدة حاولت الحفاظ على التنوع، والعالم اليوم يبحث بجدّ عن مذاق الزمن الجميل، والحال أن ثلاث تفاحات لا غير صنعت التاريخ البشري: الأولى أخرجتنا من الجنة ونعيمها، والثانية فتحت لنا أبواب السماء، أما الثالثة فعلّقتنا، جيلًا بعد آخر، بشاشات مضيئة لا تكفّ عن إبهارنا عامًا بعد عام.
التفاحات الثلاث صنعت تحولات كبرى: من المعرفة، فالجاذبية، إلى التكنولوجيا.
لكن… أين ذهب طعم التفاح؟ أين تلك التفاحة ذات الخدّين الموردَين، التي “تفوح وترد الروح للروح”، وتملأ البيت بعطرها من أول قضمة؟ قبل أن تُستورد من قارة لا نعرف موسمها ولا تربتها، وتُغلف بشمع يخنق رائحتها الأصلية، لتصبح بلا نكهة.
قد يكون احتفال المملكة المتحدة انطلق من رغبة في حماية النكهات المحلية، لكنه اليوم يتجاوز كونه مجرد مناسبة زراعية. بل يتجاوز حدود الجغرافيا، ويُفترض أن يُعمَّم بوصفه عيدًا عالميًا لواحدة من أقدم الأشجار المزروعة في التاريخ، تلك التي نقلها الإسكندر الأكبر، فتجولت حول العالم بأنواعها المتعددة، ومذاقاتها المتشابهة.
الأعياد عادةً ما تكون فرصة للاحتفال، لكن عيد التفاح يبدو أقرب إلى لحظة للمراجعة والحنين؛ مراجعة علاقتنا بالطبيعة من حولنا، وحنين لزمن يبدو أنه لن يعود، في ظل التغيرات المناخية التي أفقدت الأشياء طعمها ورائحتها وحتى معناها.
قديمًا كان يُقال إن “تفاحة في اليوم تُغنيك عن زيارة الطبيب”، وأن “أكل التفاح يطفئ الحرارة، ويبرد الجوف، ويذهب بالحمى.”
لكن، اليوم… هل ما زال بإمكاننا أن نجد تفاحة تشبهنا؟ من تربة نعرفها؟ وتاريخ نثق به؟ هل يمكن أن يكون التفاح “مريحًا” كما تقول أصول تسميته العبرية؟
كيف نقنع جيل اليوم بأن “من يرمي أحدًا بتفاحة، فهو يحبه، وإن التقطها، فهو يبادله الحب”؟ وهو جيل لا يقنع إلا بتفاحة جوبز المقضومة بمختلف إصداراتها!
الحديث عن التفاح أثار شهيّتي لبرهة صفاء… رغبة خفية في اختلاءٍ هادئ مع تلك الثمرة المستديرة. أقضمها ببطء، وعيناي مغمضتان، كأنما أستدعي من بين ألوانها – الأخضر، والأصفر، والأحمر – طفولتي الضاحكة. تفوح رائحتها في ذلك الركن القصي من الذاكرة، فتهزّ عروش القلب، وتعيد إليّ صوت الباعة يتغنون بها، وضحكةً بعيدة، ونكهةً قديمة… نكهة تشبهنا، نثق بها، نعرف تربتها وموسمها، نكهة تهمس في أذني: رغم كل ما تغيّر… ما زلنا نستحق طعمًا حقيقيًا في عالمٍ بات أكثر ما فيه… مُزيّفًا.