أحداث الروشة تكشف أزمة السلاح والهوية في لبنان

لبنان يعيش اليوم على حافة مصير مجهول؛ فإما أن ينجح في إعادة بناء دولته أو يظل رهينة معادلة السلاح والولاءات.
الاثنين 2025/09/29
رسائل بالجملة

لم يكن ما جرى مساء الخميس 25 سبتمبر على صخرة الروشة حدثًا عابرًا في المشهد اللبناني، بل محطة كاشفة لحقيقة الانقسام العميق الذي يعصف بالبلاد. فإقدام حزب الله على إضاءة هذا المعلم البيروتي البارز بصور الأمين العام السابق حسن نصرالله والقيادي هاشم صفي الدين لم يكن مجرد احتفال رمزي، بل تحديا مباشرا لقرار رئاسة الحكومة، ورسالة محمّلة بالرموز والدلالات، إلى الداخل كما إلى الخارج.

رئيس الحكومة نواف سلام، الذي سارع إلى إلغاء جميع لقاءاته الرسمية في السراي الكبير يوم الجمعة 26 سبتمبر، قرأ في الخطوة تجاوزًا صارخًا لتعميمه القاضي بمنع إضاءة المواقع الطبيعية والأثرية والسياحية بصور أو شعارات سياسية، لما في ذلك من مسّ بروحية العيش المشترك وتعدٍّ على سيادة الدولة. وهو موقف وجده عدد من الوزراء والنواب كافيًا لزيارة سلام في داره بقريطم لتأييده ودعمه، في مشهد يشي بأن الرجل لا يخوض معركته منفردا.

لكن الحقيقة أن ما جرى على الصخرة ليس “رمانة بل قلوب مليانة”. فالتصميم الذي أبداه رئيس جهاز التنسيق والارتباط في حزب الله، وفيق صفا، على تنفيذ الخطوة رغم التعميم، يرقى إلى كسر متعمد لقرار رئاسة الحكومة، في تحدٍّ يختزن رسائل داخلية وخارجية، ويعيد تسليط الضوء على لبّ المعضلة اللبنانية: سلاح حزب الله.

الرسالة واضحة: محور إيران حاضر وجاهز لأي مواجهة، وهو يرى في السلاح ضمانة لامتداد نفوذه الإقليمي، وليس مجرد أداة دفاعية محلية

منذ وصول جوزيف عون إلى سدة الرئاسة وتكليف سلام بتشكيل الحكومة، حمل العهد الجديد عنوانًا واضحًا: “حصرية السلاح غير الشرعي بيد المؤسسات الأمنية الرسمية”.

استند هذا الخيار إلى قناعة بأن أغلبية اللبنانيين ضاقوا ذرعًا بتبعات الحروب التي زج الحزب البلاد فيها، كما أنه مطلب عربي ودولي يرتكز على معادلة صارت لازمة في كل المحافل: “الإعمار مقابل السلاح”.

إلا أن الحزب رفض بشكل قاطع أي نقاش في مسألة نزع سلاحه، وهو ما كرره مسؤولوه مرارًا، مدعومين بمواقف إيرانية تعتبر أن “مهمة السلاح لم تنته بعد.” فبالنسبة إلى الحزب، السلاح ليس عبئًا بل ضرورة وجودية، لردع إسرائيل التي ما زالت تحتفظ بمواقع داخل الأراضي اللبنانية منذ حربها الثالثة، وتمارس اعتداءات واغتيالات يومية. وهكذا دخل البلد مجددًا في جدلية لا تنتهي: هل السلاح يحمي لبنان، أم يهدد كيانه؟

رئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية تعلمان جيدًا أن أي دعم خارجي للبنان مشروط بحصر السلاح. وهذا ما سمعه المسؤولون اللبنانيون صراحة في الأمم المتحدة من الأميركيين والدوليين، وحتى العرب. فالظروف تغيرت، والولايات المتحدة في عهد دونالد ترامب تعيد خلط أوراق المنطقة، ممهّدة لمرحلة سلام جديدة، فيما سوريا نفسها تقدم نموذجًا لمسار مختلف.

لكن حادثة الروشة جاءت لتعيد خلط الأوراق. فالتسريبات التي سبقت الحدث تحدثت عن تنسيق كامل بين نواف سلام ورئيس المجلس النيابي نبيه بري لضبط الأمور، إلا أن ما جرى على الأرض أكد أن الحزب ماضٍ في مساره الخاص، وأنه متمسك بسلاحه ليس فقط لمواجهة إسرائيل، بل لدور إقليمي أوسع يتخطى الحدود.

الصخرة تبقى شاهدًا على أن بيروت لم تُستهدف هذه المرة من الخارج، بل من الداخل

الدليل جاء من طهران، على لسان رئيس مجلس الشورى الإيراني محمد باقر قاليباف، الذي قال في مقابلة عبر الإنترنت إن “حزب الله اليوم أقوى وأكثر تماسكًا على المستويات المادية والمعنوية والقدرات العملياتية.” الرسالة واضحة: محور إيران حاضر وجاهز لأي مواجهة، وهو يرى في السلاح ضمانة لامتداد نفوذه الإقليمي، وليس مجرد أداة دفاعية محلية.

من هنا، لم يجد الحزب بدًّا من تحدي قرار التعميم. فالتراجع بالنسبة إليه يعني الانكسار والخضوع، ويضاعف الضغوط الداخلية والخارجية لنزع السلاح.

لذلك حرص على القول إن ما فعله لم يكن موجهًا ضد الرئاسة الثالثة أو ضد الطائفة السنية، بدليل أنه رفع إلى جانب صورة نصرالله صورتي رفيق الحريري وسعد الحريري، في محاولة لمنح خطوته شرعية وطنية، بل وإرسال رسالة مبطنة إلى آل الحريري أنفسهم، لاسيما بهاء الحريري الذي يستعد لإعادة إحياء الحريرية السياسية بخطاب يركز على حصرية السلاح.

على صخرة الروشة تحديدًا، أراد الحزب أن يؤكد ثلاثيته الشهيرة: الجيش، الشعب، والمقاومة. والرسالة لم تكن فقط إلى الدولة بل إلى القوى الأمنية والعسكرية أيضًا، التي لم تتحرك لمنع عناصره من تنفيذ المهمة. وهكذا بدا المشهد وكأن الدولة بأجهزتها تقف متفرجة، فيما الحزب يفرض معادلته الخاصة.

ما حدث أثار سيلًا من القراءات والتحليلات. البعض رأى فيه إعلان مواجهة مفتوحة، خاصة مع التصريح الذي أطلقه أحد مسؤولي الحزب خلال الاحتفال، حين قال إن التجمع يهدف إلى إسقاط أي مشروع تطبيعي مع إسرائيل. آخرون قرأوا فيه مقدمة لاحتمال عدوان إسرائيلي جديد يبدو أن معالمه تقترب. المؤكد الوحيد أن الواقع اللبناني يزداد انقسامًا، وأن الكيان نفسه يعيش أزمة وجودية عميقة.

إن كان البعض يرى أن لبنان “انتحر على صخرة الروشة”، فالحقيقة أن البلد يعيش اليوم على حافة مصير مجهول؛ فإما أن ينجح في إعادة بناء دولته على أسس واضحة أو يظل رهينة معادلة السلاح والولاءات، في انتظار حرب جديدة أو انتخابات نيابية قد تعيد رسم خارطة كيانه. وفي الحالتين، تبقى الصخرة شاهدًا على أن بيروت لم تُستهدف هذه المرة من الخارج، بل من الداخل.