من الجرح إلى القصيدة: رحلة تسع شاعرات إسرائيليات بحثا عن السلام

الكتاب يخوض رحلة بين تسع تجارب متفردة، ويتوقف أمام أصوات شعرية تنتمي إلى خلفيات دينية وثقافية وعرقية متباينة.
الخميس 2025/07/31
شاعرات يتمردن على واقعهن (لوحة للفنانة سارة شامة)

باريس - صدر عن المنتدى العربي الأوروبي للسينما والمسرح بفرنسا كتاب جديد يضيء تجربة شعرية فريدة بعنوان “تسع شاعرات من إسرائيل: من الجرح إلى القصيدة، ومن الألم إلى السلام” للكاتب والمخرج حميد عقبي.

يقدّم عقبي في كتابه قراءة نقدية تأملية لتجارب تسع شاعرات يكتبن بالعبرية، كل واحدة منهن تحوّل جرحها الشخصي والاجتماعي والسياسي إلى مساحة شعرية للبوح والمقاومة، وإلى صوت إنساني ينشد العدالة والسلام.

يختزل العنوان مسار التجربة الشعرية التي يرصدها الكتاب: انتقالٌ من الجرح إلى القصيدة، ومن الألم إلى السلام. فالشعر هنا ليس ترفا جماليا، بل فعل نجاة ومقاومة، وتحويل للمعاناة الفردية إلى نصوص تتجاوز حدود الذات نحو فضاء إنساني أرحب. السلام الذي يقترحه العنوان ليس شعارا سياسيا جاهزا، بل حالة داخلية معقدة تنبثق من مواجهة الألم والتمزق الهوياتي والعنف البنيوي.

يخوض الكتاب رحلة بين تسع تجارب متفردة، ويتوقف أمام أصوات شعرية تنتمي إلى خلفيات دينية وثقافية وعرقية متباينة، لكن يجمعها التمرد على السائد، وفضح العنف، والبحث عن معنى وجودي للشعر.

رغم تباين الأعمار والخلفيات بين الشاعرات تنسج تجاربهن شبكة مقاومة متماسكة ضد العنف السياسي والجندري والثقافي

ويقرأ عقبي مسيرة الشاعرة راحيل بلوشتاين أيقونة الشعر العبري الحديث، التي حوّلت تجربة المرض والحياة القروية إلى قصائد شفافة تتنفس الطبيعة والحزن، وتهمس بالانتماء إلى الأرض والغياب المؤلم. أما زِلدا فيرى أنها صوت صوفي وروحاني نسجت من العزلة والرمزية الدينية لغة متأملة تمزج بين الحنين والإيمان، وتجعل القصيدة صلاة داخلية تعيد للروح اتزانها.

ويتناول الكتاب أيضا تجربة داليا رافيكوفيتش، التي تمثل التوتر بين الأمومة والموت، وبين الحب والهشاشة، إذ تكشف قصائدها عن ألم مزدوج: ذاتي وجماعي، متشابك مع نقد اجتماعي وسياسي ضمني. بينما يرى أن الشاعرة طال نيتسان من أكثر الأصوات المعاصرة جرأة وتعقيدا، تكتب من داخل الجسد الجريح، وتحوّل الحميمية إلى أداة مقاومة ضد الحرب، لتصبح القصيدة جسدا متوترا يصرخ بالرفض.

ونقرأ عن روضة مرقس وهي شاعرة فلسطينية كويرية تعيش انقسام الهوية والنفي داخل الوطن، وتحوّل معاناة المثليات الفلسطينيات إلى نصوص شعرية تحتج على الاحتلال والتمييز الجندري. بينما نطلع على قصائد آيات أبوشمّيس الشابة اليافوية التي ثقفت نفسها وكتبت بالعبرية عن تشظي الهوية والانتماء المعلّق. قصيدتها مساحة مساءلة أكثر من كونها طلبا للتعاطف، تكتب من الهامش وبهدوء حاد وجمال شعري ساحر.

وحولت الشاعرة هيلا لاهاف تجربة الاغتصاب إلى فعل شعري وموسيقي يضيء الألم ويحوّله إلى طقس شفاء. شعرها يجمع بين الحميمي والجمالي، ويحوّل الصدمة إلى مقاومة ناعمة. أما عدي قيصر فهي شاعرة مناضلة من أصول يمنية، أدخلت الغضب الجسدي والسريالية إلى القصيدة، وكشفت عن تمرد على اللغة الرسمية عبر صور صادمة وسخرية حادة، لتعيد إلى الجسد مكانته كأداة احتجاج.

ويقرأ عقبي تجربة يائيل إيزنبرغ، وهي صوت شاب، كويرية، تجمع بين الشعر والغناء والعلاج بالكتابة، تكتب عن الحب والاختفاء والهوية المثلية بلمسة حسيّة تبحث عن مأوى داخلي للسلام، ترفض العنف المجتمعي والتمييز.

رغم تباين الأعمار والخلفيات بين الشاعرات تنسج تجاربهن شبكة مقاومة متماسكة ضد العنف السياسي والجندري والثقافي

المشترك بين التجارب الشعرية التي يقدمها الكتاب هو الرفض كوعي جمالي. فرغم تباين الأعمار والخلفيات تنسج هذه التجارب شبكة مقاومة متماسكة ضد العنف السياسي والجندري والثقافي.

ومن أبرز القواسم المشتركة بينها أولا تشظي الهوية، فكل شاعرة تكتب من موقع هشّ وممزق، حيث الجسد واللغة ساحة قتال. ثانيا رفض العنف البنيوي، فسواء كان احتلالا أو قمعا اجتماعيا أو اغتصابا، يتحول الألم إلى طاقة شعرية. ثالثا السلام كقيمة داخلية، وهو لم يُطرح كشعار خارجي، لكننا سنشعر بأنه مسار شاق يبدأ من الجرح نحو التصالح مع الذات.

رابع المشتركات اللغة كساحة مقاومة، إذ تفكك الشاعرات اللغة العبرية الرسمية، ويحوّلنها إلى لغة شخصية، حسية، ومتمرّدة. لنصل إلى خامسة النقاط التي تجمع بينهن ممثلة في الحميمي كسياسي، إذ السياسة في هذه النصوص تمر عبر تفاصيل الجسد والبيت والذاكرة، لا عبر الشعارات.

ويعتمد حميد عقبي في كتابه أسلوبا نقديا حرا بعيدا عن جمود الدراسات الأكاديمية. ويقترب من النصوص بعين سينمائية ومسرحية، يرى في الجسد منصة للقصيدة وفي اللغة أداة اشتباك مع العالم.

الفصل الختامي من الكتاب يقدم تأملا ثنائي اللغة (عربي/ إنجليزي) وملحقين بالإنجليزية والفرنسية لتعزيز البعد الثقافي العابر للحدود.

ويفتح كتاب “تسع شاعرات من إسرائيل: من الجرح إلى القصيدة، ومن الألم إلى السلام” بابا للحوار. ويأتي هذا العمل في زمن يطغى عليه الصوت المتطرف ويغيب فيه الشعر عن النقاش السياسي. لكنه يذكّر بأن الشعر لا يزال أداة مقاومة ناعمة، قادرة على بناء الجسور واستعادة الأمل.

كما يقدم الكتاب للقراء العرب نافذة على “الآخر” الإنساني داخل إسرائيل، وعلى أصوات نسوية تتمرد، تثور ضد العنف، تكسر الصمت وتحوّل الألم إلى أغنية للكرامة والسلام.

12