نور الغزي لـ"العرب": ميل القراء إلى الرواية على حساب القصص يصنع واقعا أدبيا مختلفا
تأخذنا نور الغزي في روايتها "تحت سماء الناصرية" لنتلمس أحزان الجنوب العراقي، حيث لا يقف الحزن عند حد، بل يصبح نبضا يوميا. وهي في هذا الحوار مع "العرب" تشرح أسرارا من عالمها الخاص بالكتابة، ولم اختارت أن تكون صوت الجنوب؟ وتقييمها لواقع النشر والكتابة في العراق.
أجمل القصص التي يمكن أن نقرؤها هي تلك التي تولد من رحم الواقع، فتتشكل كأروع لوحة فنية أدبية، تعكس لنا الحياة بما تحمله من تفاصيل، وتترك في نفوسنا أثرا لا يُمحى مهما امتد بنا العمر وطال الزمان.
“تحت سماء الناصرية”، مجموعة قصصية جديدة للكاتبة والطبيبة العراقية نور الغزي، صادرة عن دار سبك، وتقع في 101 صفحة من القطع المتوسط. وتأتي قصص المجموعة كمرآة للواقع العراقي المتشح بالحزن والسواد منذ الأزل. إنها قصص عن العراق وأحزانه، عن لياليه الطويلة الجاثمة على صدر هذا البلد، ليال ما برحت تتكرر جيلا بعد جيل، وكأنها قدر لا ينتهي.
حول المجموعة والقصص الواردة فيها حاورنا الكاتبة والطبيبة العراقية نور الغزي عن لحظة البداية مع عالم الكتابة ورؤيتها الشخصية للحرية والمزج بين التجريبية الواقعية والخيالية في قصص المجموعة.
عن لحظة البداية مع عالم الكتابة تقول الكاتبة والقاصة نور الغزي “كأغلب الكتاب، كانت لحظة البداية هي الولع والدهشة بالكتب. وبعمر 10 سنوات، قرأت القصص والجرائد التي كان يحضرها والدي من بغداد عند عودته من المعسكر كل شهر. ثم في عمر الصبا وأيام المرحلة المتوسطة والإعدادية، ظهرت المحاولات الأولى للكتابة”.
وتضيف “الكتابة بالنسبة لي هي الملجأ الوحيد من وقت الفراغ الطويل، كنت أكتب الخواطر والسجع والجناس دون أن أعرف أسماءها. وبعد البكالوريا، تركت الكتابة ما يقارب 4 سنوات بسبب البكالوريا وأول مرحلتين في كلية طب الأسنان، فظننت أن قلمي جف ولن أعود إلى الكتابة ولن أصبح كاتبة، حتى أصبت باضطراب الذهان ثنائي القطب. وبعدها، وجدت نفسي بحاجة إلى الكتابة، فعدت إليها وعادت إليّ بعد القطيعة”.
جنوب الأحزان
القارئ لهذه المجموعة يلاحظ أن الكاتبة ألبست المجموعة ثوبا حزينا حيث تؤكد الغزي “نحن جنوب العراق، والأحزان صنوان لا يفترقان. عاصرنا الحصار والغزو الأميركي في الطفولة، ثم الطائفية. وفي أيام الصبا، عاصرنا الإرهاب والمنظمات المتطرفة، ورأينا جثامين الشهداء وسمعنا عويل أمهاتهم الثكالى. ثم كبرنا وعشنا الشباب في موقع جغرافي ينتشر فيه الجهل والفقر والغبن”.
وتقول “حاولنا أن نثور فقتلونا، حاولنا أن نصرخ فأسكتونا. حلمنا وخططنا لأهدافنا فسرقوا أحلامنا، لذلك لا عجب أن تخط أقلامنا الحزن. وماذا عن حزن الناصرية السومري؟ لا أظن أن كتابا واحدا يكفيه”.
في إحدى قصص المجموعة وتحديدا في قصة “وصال”، ترى البطلة أن الذكريات بلا فائدة، فهل هذا موقف انعكاس لشخصيتها فقط أم يحمل رسالة أعمق، عن ذلك تشير نور الغزي إلى أنه “ربما تكون الإجابة الاثنين معا، لكن الأرجح هو من وجهة نظر الشخصية، لكون الطفلة من جيل لا يقدر الذكريات. ليس الجميع، لكن الكثير منهم يميل للنسيان في كل شيء، ولا يمنح الأشياء التي تذكره بالماضي قيمة. هو فقط يريد أن يعيش لليوم التالي ليرى ماذا سيحدث، متخلصا من ثقل الماضي السعيد والحزين على حد سواء”.
انحسار القصة
وحول انحسار كتابة القصة القصيرة سواء في العراق أو العالم، مقابل انفجار في الإنتاج الروائي، تعزو الكاتبة أسباب ذلك إلى “ميل القراء إلى الرواية على حساب قراءة القصص، كذلك اهتمام دور النشر بالروايات من ناحية التسويق للكتاب والكاتب أكثر من القصص”.
وتضيف أن “الكاتب نفسه يميل إلى أن يغوص في الكتابة في زمكان متعددة وشخصيات كثيرة على حساب لحظة القص. ولا ننسى صعوبة كتابة القصة، التي تعود إلى التكثيف والتركيز وإيصال الفكرة بأقل عدد من الكلمات المعبرة، في حين تمنح الرواية المزيد من الحرية”.
وعن طبائع البشر وقلوبهم التي تتغير مع الأيام كما حصل مع فريدة، إحدى بطلات قصص المجموعة، ترى الكاتبة أنها تتفق مع الفيلسوف اليوناني هيراقليطس في مقولته الشهيرة “الشيء الوحيد الثابت في الحياة هو التغيير المستمر”. وتضيف أن “حياتنا عبارة عن تغييرات مستمرة، ونحن اليوم لا ندري ماذا سيتغير فينا غدا، لذلك أمر طبيعي أن يتغير البشر كما تغيرت فريدة”.
الطب والأدب
أغلب القصص في مجموعتي، إن لم تكن جميعها، هي واقعية، لكنها لا تخلو من الخيال، وقد انعكس ذلك على ما حل بالشخصيات
عن التوفيق بيع عالمي الطب الذي يفرض الدقة والصرامة، وعالم الأدب الذي يمنح الحرية والخيال تقول الغزي “إنها قصة طويلة، في حين كان الطب اختيارا متاحا لإكمال الحياة المهنية، عادت لي الكتابة التي كانت قرارا واختيارا”.
وتضيف “في أيام الدراسة، كنت أسرق الوقت من طب الأسنان واختباراته ومختبراته الطبية وعياداته التطبيقية لأقرأ قصة أو رواية، وأكتب بعض الكلمات حتى لا أبتعد كثيرا عن الأدب. أما بعد التخرج، فكانت للكتابة حصة الأسد من أيامي، تعويضا لها عن سنوات القطيعة. طب الأسنان يحتاج الفن، كما تحتاجه الكتابة، لذلك هنا اشتركنا في نقطة واحدة، واستمرت الرحلة بالتساوي بين هذين الطريقين اللذين يجمعهما الفن ويفرقهما الخيال”. وهي تؤكد أن “الحرية هي أن تفعل ما يحلو لك، شريطة ألا تؤذي نفسك والآخرين”.
وحول القصة القصيرة ومدى قدرتها على جذب القارئ وإحداث الأثر الذي عُرفت به منذ نشأتها، ترى نور الغزي أن “بدايتها كقارئة كانت مع القصة، ومن خلال تجربتي الأولى في كتابة القصص، رأيت تأثير القراء بقصص ‘تحت سماء الناصرية’، وتفاعلهم مع الشخصيات والأحداث”. وتلفت إلى أن “القصة لو كتبت بمشاعر صادقة وأسلوب شيق يربط الواقع بالخيال، فإنها قادرة على إحداث الأثر الذي أحدثته في بداية ظهورها”.
التجربة الواقعية
من دخل الأدب بذريعة حب الكتابة، لن يتخلى عنه مهما كلفه الأمر، وهو بالذات من سيضيف الكثير للأدب العراقي
عن مزج التجربة الواقعية والخيال في مجموعة “تحت سماء الناصرية”، تؤكد نور الغزي أن “أغلب القصص في مجموعتي، إن لم تكن جميعها، هي واقعية، لكنها لا تخلو من الخيال، وقد انعكس ذلك على ما حل بالشخصيات من فقد وألم وموت وحزن يشبه حزن الجنوب والناصرية والعراق كله”.
وتضيف أن “الكاتب هو من يخلق الشخصيات، وإن فرض عليه شيء فهو ما تفرضه الفكرة بأن تتحلى شخصياتها ببعض الصفات أو تفتقد إليها. لذلك، الأمر يعتمد على الفكرة، والفكرة من صناعة الكاتب، لذلك فهو من يخلق الشخصيات مع بعض التحفظات”.
وحول تجارب الجيل الشبابي سواء في القصة أو الرواية أو حتى الشعر، تؤكد الغزي أنها “ترى في الجيل الشبابي جيلا واعدا، ومن خلال قراءاتي للإصدارات الأولى، التمست فيها شيئا من الموهبة الفذة، والتي غالبا ما تحتاج إلى الصقل بالقراءة المستمرة والكتابة اليومية، وتنوع الاطلاع على شتى صنوف الفن والموسيقى والسينما والمسرح، وتجارب الحياة مع التمعن في تفاصيل الحياة اليومية”، مضيفة أن “كل هذه المصادر هي وقود الإبداع ومنابع للأفكار الخام”.
وحول رؤيتها في ما إذا كانت التجارب الشبابية إضافة حقيقية للمشهد الأدبي في العراق أم هي مجرد محاولات عابرة، ترى صاحبة مجموعة “تحت سماء الناصرية”، القصصية أنه “وكما يقال، العبرة في الخواتيم. وكلنا كجيل يكتب لأول مرة، إن لم يستمر بعطائه والعمل على موهبته وصقلها، ستكون محاولته الأولى محاولة عابرة، أو لنطلق عليها تجربة فريدة لدهشة الكتابة”.
وتختم بالقول “ليس كل من يكتب كتابا وينشره سيختار الاستمرار، ولكل شخص حرية في الاختيار. وفي النهاية، من دخل الأدب بذريعة حب الكتابة، لن يتخلى عنه مهما كلفه الأمر، وهو بالذات من سيضيف الكثير للأدب العراقي”.
ونور أحمد عطية الغزي، كاتبة وطبيبة عراقية حاصلة على بكالوريوس في طب وجراحة الفم والأسنان من مواليد 1999، صدر لها كتابا خواطر باللغتين العربية والإنجليزية تحت عنوان “لك وإليك” عن دار آيتانا، و”تحت سماء الناصرية” وهي مجموعة قصصية جديدة عن دار سبك.