حميد عقبي يمشي في دروب خمسة مخرجين ليقرأ السينما الشعرية
باريس- صدر حديثا عن المنتدى العربي الأوروبي للسينما والمسرح كتاب “سينما الشعر: دروب خمسة مخرجين” للكاتب والمخرج اليمني حميد عقبي، وهو عمل نقدي وفني يتناول تجربة خمسة من أبرز مخرجي القرن العشرين، هم جان كوكتو ولويس بونويل وبيير باولو بازوليني وأندريه تاركوفسكي وإنغمار بيرغمان، من خلال عدسة تجمع بين التحليل السينمائي والتأمل الشعري، متخذًا من مفهوم “السينما الشعرية”بوابةً لفهم إبداعات هؤلاء المخرجين.
يقول عقبي إن السينما الشعرية “في جوهرها، لا تسعى إلى سرد الحكايات بشكل تقليدي أو الالتزام بالمفاهيم الكلاسيكية للتسلسل الدرامي. بل تميل إلى تفجير اللغة البصرية، والتلاعب بالصورة والزمن والفراغ، لتوليد أثر شعري عميق، يستدعي التأمل والدهشة. هذه السينما لا تقدم أجوبة، بل تطرح الأسئلة: عن الحياة، الموت، الإيمان، الزمن، الخيال، والواقع. وغالبًا ما تُقابل بالدهشة أو الارتباك، نظرًا لما تملكه من طابع رمزي وغموض ميتافيزيقي.”
ويضيف أن هذا المفهوم “يرتبط في جذوره بالحركات الفنية الطليعية كـالسريالية، حيث كانت الصورة وسيلة لخرق الواقع الظاهري وكشف الأعماق النفسية والوجودية. ومن هنا يقترب حميد عقبي في كتابه من هؤلاء المخرجين بوصفهم شعراء للكاميرا، لا مجرد صُنّاع أفلام.”
ويفتتح كتاب “سينما الشعر: دروب خمسة مخرجين” بمقاربة لتجربة جان كوكتو، الشاعر والمخرج الفرنسي الذي رأى في السينما امتدادًا للحلم واللاوعي. في فيلمه “دم شاعر” (Le Sang d’un Poète) تتلاشى الحدود بين الخيال والواقع، ويصبح الجسد والمرآة والجدار والظل أدوات لتصوير تشظّي الذات. ويرى عقبي أن كوكتو لا يقدّم سردًا بل طقسًا شعريًا، يدعونا لا لاستهلاك القصة بل للتورط في الحلم والاضطراب.

وينتقل الكتاب إلى لويس بونويل، الذي استخدم أدوات السريالية لمهاجمة النظم الأخلاقية والاجتماعية. في فيلمه “شبح الحرية”(Le Fantôme de la liberté) يسخر من المنطق، ويقطع الحكايات بلا إنذار، ويُدخل مشاهد عبثية تبدو بلا معنى مباشر، لكنها تنطوي على نقد لاذع للبرجوازية والدين والنظام الأبوي. يقرأ عقبي الفيلم بوصفه “صلاة كفر” ضد السلطة، ويبرز كيف حوّل بونويل السينما إلى مختبر للفوضى الخلّاقة.
وفي تجربة بيير باولو بازوليني يتداخل الشعر مع الأسطورة والجسد والسياسة. ويخصّص عقبي فصلًا لفيلم “ميديا”الذي ينهل من التراجيديا اليونانية ليكشف عن عنف الواقع الرأسمالي المعاصر. كما يخصص مقالة أخرى لفيلم “النظرية”(Teorema)، حيث يدخل شخصية غامضة إلى بيت بورجوازي فتتفجر الذوات وتنقلب القيم. يعاين عقبي جماليات اللون والرمزية الدينية والخلخلة التي يحدثها “الغريب” ككيان شعري/ثوري.
ومع أندريه تاركوفسكي تنفتح السينما على الصمت والطين والماء والانعكاسات. يرى عقبي أن تاركوفسكي يؤسس لزمن داخلي خاص، يتجاوز المونتاج السريع نحو تجربة تأملية وجودية. أفلامه تُمجّد الألم، وتُعلي الذاكرة كجهاز روحي. إنه يصوّر الحنين بوصفه جرحًا مقدسًا. وقد أبدى عقبي اهتمامًا خاصًا بصورة الأرض والعناصر الأربعة والنور المتسرب، وكيف تتحول الكاميرا إلى عين تبحث عن الخلاص.
أما إنغمار بيرغمان فحضر في الكتاب من خلال عدة مقالات، منها: “ثمانية أسباب لمشاهدة الختم السابع”و”سحر الحوار في سينما بيرغمان”. في فيلمه الأشهر “الختم السابع”(The Seventh Seal) يلعب بيرغمان الشطرنج مع الموت، ويطرح سؤال الإيمان في عالم صامت إلهيًا. يتحول الفارس إلى كائن ميتافيزيقي، يبحث عن جدوى وسط الطاعون والحرب وصمت السماء. ويشيد عقبي بجماليات التكوين، والتوتر بين الظلال والنور، وقداسة المرأة في عالم بيرغمان، بوصفها الكائن الوحيد القادر على رؤية المعجزة.
ويحاول الكاتب الإجابة على تساؤل مهم ألا وهو ما المشترك بين المخرجين الخمسة؟ فرغم اختلاف الأساليب والخلفيات، يرى عقبي أن ثمة خيوطًا تجمع بين هؤلاء المبدعين: النزعة التأملية والاهتمام بالميتافيزيقي، التمرّد على الشكل السينمائي التقليدي، رؤية الصورة ككيان شعري مستقل عن الحكاية، نقد النظام القائم سياسيًا ودينيًا واجتماعيًا، إلى جانب إعطاء مركزية للجسد والحلم والذاكرة.
هؤلاء المخرجون -في قراءة عقبي- لم يكونوا صانعي أفلام بقدر ما كانوا كتّابًا للقصيدة البصرية.
وما يجعل هذا الكتاب مختلفًا هو أن مؤلفه لا يكتب من برج نقدي، بل كمن يتنفس السينما الشعرية ويعيشها. لقد أثّر هذا النوع من السينما في كل إنتاجه: من أفلامه القصيرة، إلى نصوصه المسرحية، إلى مقالاته الفلسفية، حتى لوحاته التشكيلية. يرى عقبي في “السينما الشعرية” خلاصًا من الرداءة، ومنفىً حرًا للفكر والروح في مواجهة نظام عالمي يدعم التفاهة والاستهلاك ويُشرعن العنف والاغتراب.
وفي زمن تُختزل فيه السينما إلى مؤثرات بصرية وسرد مفرغ، يقدّم “السينما الشعرية: دروب خمسة مخرجين” دعوة إلى استعادة البعد الجمالي والفكري للفن السابع. إنه كتاب لا يكتفي بالتحليل، بل يحفّز على الحلم والتفكير والمواجهة. في كل فصل نلمس شغف المؤلف وإيمانه بأن السينما، كالشعر، قادرة على طرح الأسئلة ومقاومة التفاهة.
وحميد عقبي هو مخرج وكاتب ومثقف يمني مقيم في فرنسا، يتميّز بتجربة فنية متعددة تجمع بين الإخراج السينمائي والكتابة الأدبية والنقد الفني. له كتب باللُّغة الفرنسيّة كما تُرجمَت بعض أعمالهِ إلى الإنجليزيّة والألمانيّة والفرنسيّة والإيطالية.
له حوالي 11 كتابًا في النَّقد السِّينمائي و4 كتب في النَّقد الأدبي. أقام 11 معرضاً فنِّيّا تشكيليّا، ومعرضا فوتغرافيَّا في فرنسا. وهو ناشط ثقافي يدير المنتدى العربي الأوروبي للسينما والمسرح في باريس، والّذي ينظِّم ندوات نقديّة وأدبيّة وفنّيّة منذ عام 2018.