جهود السلام في غزة قد تستخلص دروسا من كوسوفو
يرى بعض المحللين والمتابعين لتطورات الأحداث في غزة أن مرحلة ما بعد الصراع التي تضمنتها خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب قد تكون تأثرت بمقترح من رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير. وهذا يشبه، من نواح عديدة، الأطر التي ساعد بلير في تصميمها لكوسوفو التي كانت آنذاك إقليما مضطربا ذا أغلبية مسلمة داخل صربيا ذات الأغلبية المسيحية الأرثوذكسية.
مارك تشامبيون
كاتب عمود رأي في بلومبيرغ
واشنطن- بعد عشرة أيام فقط من تسهيل الرئيس الأميركي دونالد ترامب اتفاق سلام من عشرين بندا بشأن غزة، يبدو أن المسعى أصبح بالفعل في خطر. فبدل الاستعداد لنزع سلاح حماس وتخليها عن السياسة، عاد مسلحوها من مخابئهم لاستهداف منافسيهم الفلسطينيين وإعادة فرض سيطرتهم على المناطق التي انسحبت منها القوات الإسرائيلية. واتهمت إسرائيل الحركة بنصب كمين لقواتها، بينما تشير حماس إلى أن الجيش الإسرائيلي يواصل شن غارات جوية في غزة. ويبدو كلا الاتهامين صحيحا، كما رفض الجيش الإسرائيلي إعادة فتح معبر رفح بين غزة ومصر، حسبما يقتضي الاتفاق.
ويمكن أن يُعزى هذا التدهور السريع إلى عدم رضا حماس ولا الحكومة الإسرائيلية عن الاتفاق الذي ضغط عليهما ترامب وقادة المنطقة لقبوله. وبما أن كلا الجانبين أوضحا منذ البداية عدم رغبتهما في الالتزام بأحكام رئيسية، فإن التساؤل عن سبب تحدّيهما للاتفاق يبقى أقل أهمية من التساؤل عن كيفية تحرّكهما دون عواقب.
وتكمن نقطة مقارنة مفيدة في دراسة قوات كوسوفو التي تأسست عام 1999 ولا تزال نشطة حتى اليوم، والتي ربما تُقدم أفضل نموذج لتشكيل بعثة حفظ سلام في غزة.
وليس من قبيل المصادفة أن هياكل ما بعد الصراع الموضحة في خطة ترامب قد تأثرت بمقترح من رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير. وتشبه هذه الهياكل، من نواح عديدة، الأطر التي ساعد بلير في تصميمها لكوسوفو التي كانت آنذاك إقليما مضطربا ذا أغلبية مسلمة داخل صربيا ذات الأغلبية المسيحية الأرثوذكسية.
قوات كوسوفو التي تأسست عام 1999 ولا تزال نشطة حتى اليوم، ربما تُقدم أفضل نموذج لتشكيل بعثة حفظ سلام في غزة
ولقد لعب بلير دورا حاسما في التدخل العسكري لحلف شمال الأطلسي (الناتو) عام 1999 لمنع الجيش الوطني اليوغوسلافي الصربي من إكمال حملة التطهير العرقي في كوسوفو، وهي حملة اتسمت بمجازر بحق المدنيين ونزوح جماعي لمسلمي كوسوفو. ومع ذلك، فإن ما هو أكثر صلة بغزة هو ما تلا حملة القصف التي شنها حلف شمال الأطلسي والتي استمرت 78 يوما، والتي أجبرت الرئيس الصربي سلوبودان ميلوزوفيتش على سحب قواته، وتم نشر قوات كوسوفو إلى جانب إدارة مدنية مؤقتة تديرها الأمم المتحدة.
ومن المهم التذكير بأن قوات كوسوفو صُممت سابقا لتكون “قوات إنفاذ سلام” تابعة لحلف الناتو، وبدأت بالانتشار في مقدونيا المجاورة مع بداية الحملة الجوية بكوسوفو في مارس 1999. وكان هدفها الاستعداد لدخول كوسوفو فور التوصل إلى وقف إطلاق النار. وعندما امتدت الضربات الجوية دون نجاح يُذكر، أصبح بلير من أبرز المؤيدين (على الرغم من تردد الرئيس الأميركي بيل كلينتون في البداية) لنشر قوات الناتو على الأرض كقوات سلام فاعلة بدلا من قوات حفظ سلام سلبية. وأُعيدت هيكلة القوات في مقدونيا لاحقا استعدادا لأيّ قتال محتمل.
ومع أن دبابات الناتو لم تضطر أبدا إلى خوض معارك لدخول كوسوفو، إلا أن الاستعداد المبكر ضمن جاهزيتها. وفي 12 يونيو 1999، أي بعد يومين من توقف الناتو عن القصف وبتفويض من الأمم المتحدة بمهمة حفظ سلام للبلاد، عبرت قوات كوسوفو الحدود. وتألفت الوحدات الأولى من قوات خاصة، وهي تُمثل نقيضا تماما لقوات حفظ السلام التقليدية التابعة للأمم المتحدة (الخوذ الزرقاء).
وفي حين لا يوجد صراعان متطابقان، ولا توجد مقارنة مباشرة بين ميلوزوفيتش ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أو بين الجيش الإسرائيلي والجيش الشعبي اليوغوسلافي، أو بين حماس وجيش تحرير كوسوفو، فإن أوجه التشابه بين ظروف قوات كوسوفو والمهمة المقترحة في غزة كبيرة.
لنبدأ بحجم المشكلة وطبيعتها. ففي كل من كوسوفو وغزة، شملت الصراعات أراضي صغيرة وسكانا (1.6 مليون ومليوني نسمة على التوالي) مع انقسامات عرقية دينية متجذرة واتهامات بالتطهير العرقي. وفي كلتا الحالتين، كان من المتوقع أن يكون السلام هشا. وكان من الواضح أن القوات المهيمنة ستحاول استعادة الأراضي المفقودة إن أمكن، بينما لن تنزع الجماعات المتمردة سلاحها إلا تحت الضغط.
ليس من قبيل المصادفة أن هياكل ما بعد الصراع الموضحة في خطة ترامب قد تأثرت بمقترح من رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير
وعلى الرغم من أن مقاتلي جيش تحرير كوسوفو، البالغ عددهم 17 ألف مقاتل، اعتبروا الناتو حليفا، إلا أنهم قاوموا نزع السلاح، واستمر جمع الأسلحة بعد الموعد النهائي. وقد نفت صربيا وروسيا مزاعم قوات كوسوفو الرسمية بالتقدم المحرز، ونفّذ جيش تحرير كوسوفو عمليات قتل انتقامية ضدّ من اعتُبروا متعاونين مع الصرب. ومع ذلك، لولا النشر السريع لخمسين ألف جندي من قوات كوسوفو عقب الفراغ الذي خلفته القوات الصربية، لكان الوضع أسوأ بكثير.
وقال تقرير لوكالة بلومبيرغ أن هذا يُقدم أوضح تفسير لسبب تعثر صفقة ترامب بشأن غزة بهذه السرعة: فقوات حفظ السلام التابعة لها لا تزال مجرد خطة على الورق في القاهرة. وعلى عكس قوات كوسوفو، لم يتم إعدادها قبل وقف إطلاق النار لأن ترامب أمضى شهورا في التفكير في مقترحات غير واقعية، مثل تحويل غزة إلى ريفييرا الشرق الأوسط الخالية من الفلسطينيين، وهي فكرة جذبت المتشددين الإسرائيليين لكن القادة العرب رفضوها. ولم يحدث التحول نحو نهج دبلوماسي أكثر جدية إلا في سبتمبر، بعد أن أحرج نتنياهو ترامب بقصف قطر.
وعلى الرغم من أن قوات كوسوفو لم تكن مثالية، فوجودها المستمر بعد 25 عاما دليل على ذلك. إلا أنها لا تزال واحدة من أنجح بعثات حفظ السلام التي أمكن تنفيذها وهي تقدم دروسا قيّمة لغزة. وبحسب ما ورد، ستقود مصر القوات الجديدة التي من المتوقع أن تكون بقرار من الأمم المتحدة ولكن ليس بقيادتها، وستضم قوات من دول ذات أغلبية مسلمة مثل أذربيجان وإندونيسيا. وهذا يتماشى مع مبدأ قوات كوسوفو بأن قوات حفظ السلام يجب أن تأتي من دول يثق بها السكان المحليون. ومن الدروس المهمة الأخرى ضرورة أن تكون البعثة واسعة النطاق، ومسلحة جيدا، وتُمنح تفويضا واضحا بقواعد اشتباك صارمة.
ولم يُتح نهج ترامب في إبرام الصفقات الإعداد الدقيق الذي مكّن قوات كوسوفو من ملء الفراغ الأمني فور انتهاء الحرب. لقد فاتت تلك الفرصة بالفعل. ومع ذلك، فإن وقف إطلاق النار في غزة ليس محكوما عليه بالفشل بالضرورة. وبينما تستعد مصر لنشر قواتها، ينبغي عليها الاستفادة من خبرة قوات كوسوفو والتحرك بسرعة لتحقيق الاستقرار في المنطقة (ربما بدءا من رفح) لمعالجة الفراغ الأمني في غزة، حتى لو كان ذلك تدريجيا.