جماليات الفن وسيلة للهروب من واقع القمع السلطوي في فيلم "قبلة المرأة العنكبوت"
يقدّم الفيلم الأميركي "قبلة المرأة العنكبوت" للمشاهدين فسحة من الحلم والدهشة، ويعيد التذكير بدور الفن في مداواة الجراح وتخفيف وطأة الواقع، حيث يعيد المخرج القصة إلى موطنها الأصلي في الأرجنتين ويمنحها طابعًا لاتينيًا واضحًا.
تدور أحداث فيلم “قبلة المرأة العنكبوت” للمخرج بيل كوندون حول تقاسم السجين السياسي فالنتين الزنزانة مع مولينا المتهم في قضية أخرى، حيث تنشأ بينهما علاقة صداقة غير متوقعة، ويتبادلان الآراء حول مواضيع مثل الفن والسياسة.
العمل من سيناريو بيل كوندون وتيرينس ماكنالي، وبطولة كل من جينيفر لوبيز، دييجو لونا، توناتيوه، دريتون دوفولاني، ويل فيتس، وجوزيفينا سكاجليوني.
يصل فيلم “قبلة المرأة العنكبوت” إلى المنصات التدفقية السينمائية في لحظة عالمية يطغى فيها الإحباط والتوتر السياسي والاجتماعي العالمي، فيقدّم للمشاهدين فسحة من الحلم والدهشة، ويعيد التذكير بدور الفن في مداواة الجراح وتخفيف وطأة الواقع، إذ يعود هذا العمل إلى رواية الأديب الأرجنتيني مانويل بويغ التي صدرت عام 1976، والتي تحوّلت إلى مسرحيات وأفلام شهيرة، قبل أن تعود اليوم في نسخة موسيقية درامية بتوقيع المخرج بيل كوندون، المعروف بقدرته على خلق عوالم استعراضية مبهرة، وذلك من خلال صيغة جديدة يمنحها المخرج روحًا جديدة تعبّر عن حاضر مأزوم يحتاج إلى جماليات الفن أكثر من أي وقت مضى.
وينطلق الفيلم من سياق سياسي قاسٍ، حينما تدور أحداثه في عام 1983، خلال فترة الحرب القذرة في الأرجنتين، التي شهدت مقتل واعتقال عشرات الآلاف، وفي قلب هذا العنف يلتقي سجينان، فالنتين وهو ثوري يساري مسجون بسبب نشاطه السياسي، ولويس مولينا، رجل مثلي مسجون بسبب ميوله الجنسية، فيتقاطع مصيرهما في زنزانة واحدة، فيجد مولينا في الحكي وسيلته لمقاومة القسوة، فيسرد لرفيقه قصة فيلمه المفضل “قبلة المرأة العنكبوت”، وهو فيلم استعراضي من بطولة إنغريد لونا التي جسدتها جنيفر لوبيز، ومليء بالرقص والمؤامرات والخيانة واللعنات التي تنتهي بالحب.
المشاهد الموسيقية تُصوَّر وكأنها عروض على خشبة مسرح عتيق، بألوان مشبعة قريبة من أعمال بيدرو ألمودوفار
وفي ظل ضغط إدارة السجن على مولينا لخيانة رفيقه مقابل الإفراج عنه، تنشأ بينهما علاقة مركبة، تتأرجح بين التعاطف والمصلحة، وبين الحب والخيانة.
ويختار المخرج كوندون أن يجعل هذه العلاقة محور السرد، فيتعامل معها كصراع بين الأمل واليأس، بين الحرية المكبوتة والجدران التي تضيق يوماً بعد يوم. ويستخدم هذا التوتر السياسي والإنساني كخلفية لما هو أعمق: كيف يمكن للحلم أن يمنح الإنسان مساحة للبقاء، ولو داخل زنزانة معتمة.
وينقل المخرج كوندون الحكاية من زنزانة رطبة خانقة إلى فضاءات ملوّنة تفيض بالحياة، مستندًا إلى تقاليد السينما الموسيقية الكلاسيكية، إذ يوظف الأزياء والإضاءة والتصميم الفني بشكل متناغم ليصنع عوالم أشبه بعروض مسرحية قديمة، يغمرها اللون والضوء والحركة، بينما يخلق هذا التباين بين الواقع والحلم نوعًا من الانفصال المؤقت الذي يجعل المشاهد يعيش ما يعيشه مولينا نفسه، أي الانتقال من السجن إلى عالم سينمائي مبهج، ولو لوهلة.
ويبرز التعاون بين كوندون ومدير التصوير توبياس شليسسلر هذه الثنائية بوضوح، إذ تُصوَّر المشاهد الموسيقية وكأنها عروض على خشبة مسرح عتيق، بألوان مشبعة قريبة من أعمال بيدرو ألمودوفار. ويتعمّد المخرج إحاطة القصة بسلسلة من الإشارات إلى تاريخ السينما الموسيقية العالمية، مثل “الغناء تحت المطر” و”أميركي في باريس” و”القبعة العليا” و”السيدات يفضلن الأشقر”، فيربط الماضي بالحاضر، ويحوّل الفيلم إلى تحية فنية للسينما نفسها.
وتجسّد جنيفر لوبيز شخصية إنغريد لونا وامرأة العنكبوت بطاقة طاغية وأناقة متقنة، فتتحول من مجرد بطلة داخل قصة مولينا إلى رمز للحرية الداخلية وللهروب من الواقع. فتظهر مرتدية فساتين مرصعة بالخرز، بتسريحة شعر كلاسيكية على طريقة الأربعينات، وأحمر شفاه صارخ يرمز إلى الأنوثة والسلطة الجمالية، وتعيد لوبيز من خلال أدائها فكرة النجمة التي تجذب الضوء حولها، لتمنح مولينا والمتفرج مساحة للتنفس وسط القمع، بينما يتغلغل الدور إلى البعد النفسي. فهي بالنسبة إلى مولينا تعبير عن ذاته المكبوتة التي لا يستطيع أن يعيشها في الواقع. ومن خلال الأغاني والرقصات، يتحرر من قيود المجتمع والسجن معًا، ليحلم بحياة بديلة يعيش فيها بهويته الحقيقية.
جنيفر لوبيز تجسّد شخصية إنغريد لونا وامرأة العنكبوت بطاقة طاغية وأناقة متقنة
ويمنح دييغو لونا الشخصية الثورية عمقًا متدرجًا، إذ يبدأ في الفيلم متجهمًا، صلبًا، ساخطًا على رفيق الزنزانة. لكنه مع توالي الأحداث يكشف هشاشته، ويُظهر ملامح إنسانية حقيقية خلف صلابته. ويتطور أداؤه تدريجيًا في موازاة تطور العلاقة بين الشخصيتين، فيصبح مرآة لمفهوم آخر من مفاهيم المقاوم ضد العزلة والخوف.
ويبرز توناتيوه أداءً جيدا يجمع بين الطرافة والألم، بين الحلم والواقع. يضفي على شخصية مولينا روحًا خفيفة رغم ثقل الوضع، فينقل للمشاهد إحساسًا بالدهشة والحسرة معًا. ومن خلال تنقلاته بين العوالم، يصبح مولينا هو الجسر الذي يعبر عليه المتفرج من السجن إلى الخيال.
ويفكك صانع الفيلم كوندون الإرث السينمائي للفيلم الأصلي الصادر عام 1985 للمخرج هيكتور بابينكو، ويعيد تركيبه بروح مختلفة، بينما كانت النسخة الأولى تركز على البعد الدرامي، تأتي نسخة 2025 لتضيف بعدًا موسيقيًا استعراضيًا يجعل العلاقة بين الحالم والثوري أكثر حدة. ويعيد المخرج القصة إلى موطنها الأصلي في الأرجنتين ويمنحها طابعًا لاتينيًا واضحًا، ويمنح لوبيز مساحة أكبر من سونيا براغا في النسخة القديمة، ليصبح حضورها جزءًا محوريًا من بناء العالم الفني للفيلم.
ويتعامل كوندون مع المادة الأصلية بذكاء؛ فهو يحترمها لكنه لا يتردد في منحها شكلًا جديدًا يناسب الحاضر. وبهذا يخلق نسخة يمكنها أن تقف مستقلة عن سابقاتها، وتخاطب جمهورًا معاصرًا يتوق إلى السينما التي توازن بين العمق والمتعة، بينما تبروز الحبكة السينمائية للعمل رسالة واضحة مفادها أن الفن وسيلة للبقاء، كونه يوظف موسيقى جون كاندر وفريد إيب في خلق عالم صوتي متماسك، حتى وإن لم تبلغ ألحان العمل شهرة فيلم “شيكاغو”، وينسجم الصوت مع الصورة ليمنح المتفرج تجربة شاملة، تُعيد إليه بريق الحكايات الكبرى التي كانت السينما الكلاسيكية تحتفي بها.
وتنتهي مشاهد الفيلم بحلم بسيط عن الحرية، ويعيد التذكير بأن الهروب الفني هو فعل مقاومة ناعم في وجه القسوة. ويمنح المشاهدين لحظة نادرة من الانفصال عن الواقع، ليتذكروا أن الفن في أزمنة الانكسار يبقى أحد أقوى أشكال النجاة. وهكذا، يظل فيلم “قبلة المرأة العنكبوت” دعوة للتشبث بالجمال في وجه العتمة.
مشاهد الفيلم تنتهي بحلم بسيط عن الحرية، ويعيد التذكير بأن الهروب الفني هو فعل مقاومة ناعم في وجه القسوة
وتستعرض رواية “قبلة المرأة العنكبوت” للكاتب الأرجنتيني مانويل بوتج التي اقتبس منها الفيلم تجربة سردية غير تقليدية، تجمع بين السياسة والنفس الإنسانية والخيال السينمائي، وتنطلق الرواية من بنية سردية مبتكرة، حينما يغيب الصوت السردي التقليدي لصالح مزيج من الحوار المباشر وتقارير السجن وتيار الوعي. وهذا الأسلوب يسمح للقارئ بالغوص مباشرة في عوالم الشخصيات الداخلية والخارجية، ويبرز الصراعات النفسية والسياسية بطريقة مكثفة تجعل من الرواية تجربة قراءة فريدة ومباشرة. تعتمد الرواية بشكل رئيسي على الحوار دون إشارة مباشرة إلى من يتحدث.
وتدور أحداث الرواية في زنزانة سجن في بوينس آيرس بين سبتمبر وأكتوبر 1975، عندما يتشارك الشخصان الرئيسيان، مولينا وفالنتين، الزنزانة نفسها. ويمثل كل منهما عالمًا مختلفًا: فالنتين ثوري شيوعي، عضو في جماعة تحاول الإطاحة بالحكومة، بينما مولينا مصمم نوافذ مثلي الجنس محتجز بتهمة إفساد قاصر، فيكتسب السرد بعدًا نفسيًا واجتماعيًا من خلال حكايات الأفلام التي يرويها مولينا لفالنتين، والتي تعمل كوسيلة للهروب من قسوة السجن والواقع القمعي المحيط بهما.
هذه القصص السينمائية تتحول إلى مواز لعوالمهما الداخلية، حيث تتقاطع السياسة والهوية الجنسية والصراعات الإنسانية في تجربة سردية غنية ومتعددة الطبقات. الرواية لا تتوقف عند الحبكة الرئيسية بين الشخصيتين، بل تتوسع لتشمل العديد من الحبكات الفرعية وخمس قصص إضافية.
عرفت “قبلة المرأة العنكبوت” تحولات فنية مهمة بعد صدورها في عام 1976، حينما قام بوتج بتحويلها إلى مسرحية في 1983 بترجمة إنجليزية، ثم إلى فيلم سينمائي حائز على جائزة الأوسكار عام 1985، وتحولت لاحقًا إلى مسرحية موسيقية في برودواي عام 1993، وحلقة تلفزيونية خاصة عام 2020. هذه التحولات تؤكد قوة النص السردي وإمكاناته التمثيلية، بالإضافة إلى تأثيره المستمر في الثقافة السينمائية والمسرحية على حد سواء.
ويُعرف مانويل بوتج (1932 – 1990) بأسلوبه الذي يمزج بين السينما والتحليل النفسي والسياسة. انطلقت شهرته في عام 1968 بروايته الأولى “خيانة ريتا هيوارث”، عندما كانت الإشارات السينمائية محورًا رئيسيًا في عمله، وسيتكرر هذا الأسلوب لاحقًا في أعمال مثل “شفاه مطلية” (1969). في روايته “علاقة غرامية في بوينس آيرس” (1973)، أدمج بوتج عناصر من التحليل النفسي لاستكشاف دواخل الشخصيات، وهو ما يتواصل ويبلغ ذروته في “قبلة المرأة العنكبوت” من خلال الجمع بين الهروب النفسي والصراع السياسي والهوية الفردية، مع تقديم نصوص غنية بالرموز والتقنيات الفنية الحديثة التي تجعل القارئ متورطًا في تحليل الأحداث والتفاعلات الإنسانية المعقدة.