تماثيل شمعية تروي حكايات البصرة

متحف الشمع في البصرة يرسل دعوة مفتوحة إلى الزائر ليعيش ويتأمل ويعيد اكتشاف مدينة لا تزال تنبض بالحياة.
الأربعاء 2025/10/08
مشاهد مجسمة تحاكي الواقع

يوثق متحف الشمع في البصرة الحياة الاجتماعية والحرف التراثية المنقرضة عبر مشاهد وتماثيل شمعية دقيقة، ويقدّم تجربة حسية تفاعلية مدعومة بأصوات ولهجات محلية. يهدف المشروع إلى إحياء ذاكرة المدينة، ويُعد خطوة ضمن خطة لإنشاء عشرة متاحف تراثية بالبصرة.

البصرة (العراق) ـ في مدينة البصرة، حيث تتقاطع الأزمنة وتتمازج الحكايات بين ضفاف شط العرب وأزقة السوق القديم، ينبثق مشروع ثقافي فريد من نوعه، يسعى إلى إعادة الحياة لذاكرة المدينة، لا عبر الكتب أو الصور فقط، بل من خلال وجوه شمعية تنطق بالصمت، وتروي تفاصيل الحياة اليومية كما كانت تُعاش في زمن مضى.

ويُعد متحف الشمع ثاني متحف تراثي في البصرة بعد المتحف الحضاري، ولا يكتفي بعرض القطع الأثرية أو سرد الوقائع، بل يقدّم تجربة حسية متكاملة، تُحاكي الزائر وتغمره في مشاهد مجسّمة من الحياة الاجتماعية البصرية، بدءا من الحمّام الشعبي، مرورا بفرقة الخشابة، ووصولا إلى الحرف اليدوية التي اندثرت مثل الصفار والكواز، وغيرها من المهن التي كانت تشكّل نبض المدينة وروحها.

وفي تصريحات سابقة، أوضح مدير دائرة الآثار والتراث في البصرة مصطفى الحسيني أن الهدف الأساسي من إنشاء المتحف هو توثيق الحرف التي اندثرت، وإحياؤها بطريقة فنية تضمن وصولها إلى الأجيال القادمة. وقد تم تنفيذ المشروع عبر 22 مشهدا متكاملا، يضم 54 تمثالا شمعيا، صُمّمت بدقة لتجسيد الشخصيات البصرية القديمة، من حيث الملامح والملابس وحتى تفاصيل الوضعيات اليومية.

وأضاف الحسيني أن العمل استغرق ثلاث سنوات من البحث والتوثيق، بمشاركة نخبة من أساتذة كلية الفنون في جامعة البصرة، الذين ساهموا في إخراج المشاهد والنحت، مستندين إلى مصادر تاريخية وشهادات حيّة من كبار السن في المدينة.

ولم يكن التحدي في النحت وحده، بل في اختيار المواد التي تتحمّل درجات الحرارة العالية التي تشهدها البصرة، خاصة في فصل الصيف. وقد تم استخدام خامات عالية الجودة لضمان استدامة التماثيل والمشاهد، مع مراعاة أدق التفاصيل في الأزياء والإكسسوارات، لتكون الصورة أقرب ما تكون إلى الواقع.

في متحف الشمع بالبصرة تتجسد الذاكرة في وجوه صامتة تنطق بالحرف والصوت، وتعيد الحياة لزمن منسي في المدينة

ويحتوي المتحف أيضا على مكتبة متخصصة بتراث البصرة، تضم كتبا ووثائق نادرة، إلى جانب قاعة مخصصة للقطع الأثرية التي تم الحصول عليها من عمليات التنقيب في المحافظة، والتي يعود تاريخ بعضها إلى ما بين 300 و400 عام، ما يمنح الزائر فرصة للتنقل بين العصور، من الحياة اليومية إلى العمق التاريخي.

ويقدم المتحف واحدة من أبرز الإضافات، هي مجموعة من اللوحات والصور القديمة، المرفقة بأصوات مسجّلة باللهجة البصرية، تم جمعها من أرشيفات محلية ومقابلات مع سكان المدينة. هذه الأصوات، التي تتراوح بين نداءات الباعة في السوق، وأهازيج الخشابة، وأحاديث المقاهي، تضيف بعدا حيا للمشهد، وتمنح الزائر إحساسا بأنه يسير في أزقة البصرة القديمة، لا في قاعة عرض.

وأشار الحسيني إلى أن الهدف المستقبلي لدائرة الآثار والتراث هو إنشاء عشرة متاحف في البصرة، تغطي جوانب مختلفة من تاريخها وثقافتها، لتكون المدينة مركزا حضاريا متكاملا، يحتفي بماضيها ويستشرف مستقبلها. ويُعد متحف الشمع خطوة مهمة في هذا المسار، كونه لا يكتفي بعرض التراث، بل يقدّمه بأسلوب تفاعلي يدمج بين الفن والتوثيق.

وفي زمن تتسارع فيه التكنولوجيا وتُختزل فيه الذاكرة في أرشيف رقمي، يأتي متحف الشمع ليعيد الاعتبار للتراث الحي، ويمنح الزائر فرصة للتماس المباشر مع ملامح الناس، وأصواتهم، وأدواتهم، وحتى أحلامهم الصغيرة التي كانت تُنسج في زوايا السوق أو على ضفاف النهر.

إنه ليس مجرد متحف، بل مرآة لروح البصرة، حين كانت الحياة تُعاش ببساطة، وتُحكى بالحرف، وتُغنّى بالخشابة، وتُصاغ في النحاس والطين. مشروعٌ كهذا لا يُعيد الماضي فحسب، بل يُعيدنا نحن إلى ذواتنا، إلى جذورنا، وإلى سؤال الهوية الذي لا يُجاب عليه إلا حين نرى أنفسنا في وجوه الشمع، ونسمع صوتنا في تسجيل قديم باللهجة البصرية.

ويعد متحف الشمع في البصرة دعوة مفتوحة إلى الزائر، لا ليشاهد فقط، بل أيضا ليعيش، ويتأمل، ويعيد اكتشاف مدينة لا تزال تنبض بالحياة، حتى في تماثيلها الصامتة.

12