واشنطن تشدّد ضغوطها على العصب المالي الحساس للميليشيات الشيعية في العراق
استخدام الولايات المتّحدة للعوامل الاقتصادية والمالية كسلاح في المواجهة المفتوحة ضدّ الفصائل العراقية المرتبطة بإيران خيار مدروس ومبني على معطيات ثابتة بشأن فاعلية ذلك السلاح ضدّ الميليشيات التي تحوّلت إلى كيانات ذات مصالح سياسية واقتصادية ومالية متشعّبة، تحرص على تحصيل المزيد منها وحمايتها أكثر من حرصها على وظيفتها التقليدية كمجرّد أذرع مسلحة مقاتلة نيابة عن طهران.
بغداد - أظهر عمل الكونغرس الأميركي على قانون لمنع تمويل المنظمات المرتبطة بإيران في العراق مجدّدا التركيز الاستثنائي من قبل واشنطن على الجوانب الاقتصادية والمالية في عملية تحجيم تلك المنظمات التي يقصد بها أساسا الفصائل المسلّحة ذات الارتباط الوثيق بطهران ودائرة قرارها السياسي والأمني والصلات الواسعة بحرسها الثوري، وذلك من منطلق دراية أميركية تامة بأهمية المال لتلك الأذرع الإيرانية، والتي تجاوزت كونها مجرّد ميليشيات وأصبحت عبارة عن كيانات مشاركة في السلطة ومشكّلة لمجموعات مصالح ومنغمسة في أنشطة اقتصادية ومالية مفيدة لها ولحليفتها إيران شديدة الحاجة إلى العملة الصعبة، أكثر حتّى من انغماسها في القتال نيابة عنها.
وأعلنت لجنة الخدمات المسلحة الجمهورية في الكونغرس الأميركي عن تمرير تعديل القانون الذي قدمه النائب جو ويلسون بشأن الدفاع الوطني والمتضمّن منع تمويل المنظمات المرتبطة بإيران في العراق. وجاء ذلك امتدادا لعملية محاصرة اقتصادية ومالية أميركية أوسع نطاقا للميليشيات الشيعية في العراق والمنضوي معظمها ضمن الحشد الشعبي سعيا لتفكيكها عنوة بعد أن فشلت واشنطن في إقناع الحكومة العراقية بالقيام بذلك طواعية.
ومؤخرا قامت واشنطن في نطاق ذلك المسعى بمحاولة لتعطيل صرف رواتب مقاتلي الحشد من ميزانية الدولة العراقية، وذلك بالضغط على الشركة المشغلة لنظام كي كارد المعتمد في صرف تلك الرواتب وتهديدها بالعقوبات.
وتسعى إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب من خلال التلويح بالورقة الاقتصادية والمالية في وجه بغداد أيضا لتحقيق هدف ثان هو حرمان إيران من استخدام العراق مصدرا للعملة الصعبة التي تواجه طهران صعوبة في الحصول عليها بفعل العقوبات الأميركية المفروضة عليها، والتي تستعين طهران بالميليشيات الشيعية وشبكاتها الاقتصادية والمالية المتشعبة للالتفاف عليها، وهو الأمر الذي تعمل واشنطن بمواظبة وإصرار لمنعه.
وتستخدم الميليشيات سيطرتها الميدانية وقوّة سلاحها وأيضا نفوذها السياسي والأمني في الانخراط بعمليات تهريب لمصلحة إيران، بما في ذلك تهريب نفطها الممنوع من التسويق بفعل العقوبات. وأعلنت وزارة الخزانة الأميركية في وقت سابق من الشهر الجاري عن فرض عقوبات على شبكة أعمال عراقية قالت إنّها تتولى عملية تهريب النفط الإيراني تحت ستار قانوني عراقي.
◙ مجرد بداية لحرب مالية أميركية أطول ضد الميليشيات هدفها النهائي تجفيف منابعها بالكامل تمهيدا لتفكيكها
وقال وزير الخزانة الأميركي سكوت بيسنت في بيان إن إيران “تواصل الاعتماد على شبكة غامضة من السفن وشركات الشحن والوسطاء لتسهيل مبيعاتها النفطية وتمويل أنشطتها المزعزعة للاستقرار، مؤكّدا أنّ وزارته “ستواصل استهداف مصادر دخل طهران وتكثيف الضغوط الاقتصادية لتعطيل وصول النظام إلى الموارد المالية التي تغذي أنشطته المزعزعة للاستقرار.”
وبالتوازي مع تلك الضغوط يواصل مشرّعون أميركيون جهودهم لمحاصرة الأذرع الإيرانية في العراق ماليا واقتصاديا. ووفقا لما ورد في حيثيات التعديل على القانون المقدم من النائب الجمهوري ويلسون فإن “الهدف من ذلك التعديل هو منع تمويل المنظمات التابعة لايران في العراق من أموال دافعي الضرائب الأميركيين. وهو جزء من إستراتيجية أميركية أوسع لمواجهة النفوذ الإيراني.” ويقصد بتلك المنظمات، بحسب ما ورد ذكره في نص القانون، عدة فصائل مسلحة منضوية ضمن هيئة الحشد الشعبي العراقية ومعروفة بارتباطها الشديد بالحرس الثوري الإيراني.
ويتوقّع مختصون في شؤون الجماعات الشيعية المسلحة المرتبطة بإيران في العراق والمنطقة أن تكون الإجراءات المالية المتدرّجة التي تتخذها الولايات المتحدة ضدّ تلك الجماعات مجرّد بداية لحرب مالية أشمل هدفها النهائي تجفيف منابعها بالكامل بهدف إضعافها وتهيئتها للحل والتفكيك، وهو هدف لا تخفيه واشنطن عندما تطالب السلطات العراقية بشكل صريح بحل الحشد الشعبي باعتباره كيانا غير شرعي موازيا للمؤسسة الأمنية والعسكرية الرسمية.
وتعتمد إدارة ترامب في مسعاها على تقييم لوضع الميليشيات العراقية يأخذ بعين الاعتبار تحوّل جمع الأموال وإدارة المصالح الاقتصادية كعنصر أساسي في نشاط أغلب الفصائل. وورد في تقرير حديث لمجلة الإيكونوميست البريطانية أنّ الفصائل المسلّحة في العراق تحوّلت إلى قوى سياسية واقتصادية ضخمة تسيطر على وزارات هامة مثل وزارة النفط ووزارة الصناعة والمعادن، وتتمتع بنفوذ واسع في البيروقراطية العراقية ما جعلها تراعي تلك المصالح بعدم انجرارها بسهولة خلف صراعات إقليمية مسلّحة.
وتكشف الكثير من التقارير والتحقيقات الإعلامية الغربية عن جوانب من الأساليب الملتوية والمتشعّبة التي تعتمدها الميليشيات للحصول على الأموال الضرورية لتلبية حاجاتها الكبيرة ومصاريفها الباهظة. وبيّن تقرير سابق لصحيفة وول ستريت جورنال الأميركية كيف لجأت فصائل عراقية مسلحة إلى استخدام البطاقات الإلكترونية للحصول على عملة الدولار بعد أن ضيقت عليها إجراءات الخزانة الأميركية الخناق وحدّت من إمكانيات وصولها إلى الدولار.
وأوضح التقرير أنّ العراق كان قبل نحو عامين فقط عبارة عن سوق ثانوية لشركتي فيزا وماستر كارد، ولم يكن يُولّد سوى حوالي خمسين مليون دولار شهريا أو أقل من المعاملات العابرة للحدود في بداية عام 2023. ثم ارتفع حجم التداول بشكل صاروخي ليصل إلى ما يقرب من 1.5 مليار دولار بحلول أبريل العام الجاري، بزيادة تقارب 2900 في المئة بين عشية وضحاها.
وكشفت الصحيفة عن تحول لافت، فبعد أن أحكمت وزارة الخزانة الأميركية والاحتياطي الفيدرالي قبضتهما على ثغرات التحويلات البرقية الدولية أواخر عام 2022، والتي كانت الميليشيات العراقية المدعومة من إيران تستغلها للتمويل غير المشروع، سرعان ما وجدت هذه الميليشيات طريقا بديلا. وبحسب التقرير أتقنت هذه الفصائل بالتعاون مع حلفائها في طهران كيفية استغلال شبكات الدفع العالمية لشركتي فيزا وماستر كارد على نطاق واسع، لتأمين الدولار الأميركي الذي باتت تفتقر إليه، وذلك وفقًا لمسؤولين أميركيين وعراقيين ووثائق سرية.