هل تنهار إسرائيل من الداخل قبل أن تنهار من الخارج
عاصفة لم تكن في الحسبان تبرز في قلب إسرائيل، ليس فقط على جبهات القتال، بل في شوارعها، حيث خرج الآلاف من الإسرائيليين يعلنون صرختهم المدوية ضد خطة حكومتهم التي تريد أن تحكم قبضتها الحديدية على غزة.
فإسرائيل اليوم لم تعد تخوض معركة مع الفلسطينيين فقط، بل مع شيطانها الداخلي الذي يقضم جسدها من الداخل. وهذه الاحتجاجات ليست مجرد اعتراض على سياسة أو عملية عسكرية، بل هي زلزال داخلي يهزّ أركان الكيان ويكشف عن صراعات عميقة بين نخبه وقواعده الشعبية، بين مؤسساته الأمنية وحكومته السياسية، وبين هوية يحاول أن يبنيها لنفسه، وهوية تتهددها أصوات الداخل قبل الخارج.
إسرائيل لم تكترث لصوت الداخل، متجاهلة الاحتجاجات والرفض الشعبي لخطة الاحتلال، فاختارت أن تمضي قدمًا في طريق يشق وحدة الكيان ويعمّق الأزمة. هذا التجاهل جعل من الصراع أكثر تعقيدًا؛ فالأعداء ليسوا أعداء الخارج فقط، بل في قلب الداخل ومؤسساته.
هذه الاحتجاجات العارمة ليست مجرد رفض لخطة احتلال، بل هي رفض لاستمرار سياسة فشلت في بناء مستقبل إسرائيل، وتغذّي دوّامة لا تنتهي من العنف والانتقام
هنا، في قلب هذا الكيان الذي طالما اعتاد فرض إرادته بالسلاح، ينبثق صوت مختلف يرفض أن تتحول الدماء إلى مجرد أرقام في سجل الحسابات الإستراتيجية، صوت يقول إن الكلفة البشرية باتت أعباءً لا يُطاق حملها، وإن الغربة عن العدالة والإنسانية هي بداية النهاية. هذه الاحتجاجات ليست عابرة، بل هي إعلان موت لأسطورة إسرائيل المتماسكة، تكشف هشاشة كيان ظن أن السيطرة على الأرض تعني السيطرة على القلوب، وأن قوة السلاح تعني قوة الشرعية. ففي خضم التصعيد العسكري الهمجي، تتفاقم أزمة سياسية وثقافية تكاد تحوّل الجيش نفسه إلى منبر يرفض خطة اعتبرها فخًا إستراتيجيا يقود الدولة إلى المجهول.
ما يحدث اليوم اختبار قاسٍ لقدرة إسرائيل على تجاوز مرحلة هيمنة السياسة السلطوية، وعلى التفاعل مع واقع جديد يتطلب قراءات أكثر عمقًا للصراع، إذ لم يعد الأمر مجرد مواجهة عسكرية مع غزة أو المقاومة، بل صراع داخلي على مستقبل الكيان، على الشرعية، على الكرامة والهوية. الاحتجاجات التي تهز تل أبيب ليست مجرد زوبعة عابرة، بل رسالة مشفرة للعالم: ليس كل من يرتدي الزي العسكري أو يحمل سلطة الدولة هو صوت الأمة، فهناك في الداخل من يرفض أن تتحول دولته إلى آلة تدمير تفقد باسم الأمن.
هذا الانقسام الداخلي يحمل دلالات أعمق عن ضعف الإستراتيجيات الراهنة، ويعكس واقعًا مفاده أن الحلول العسكرية لا تصنع السلام، ولا تستجيب للتحديات الحقيقية للمنطقة. ففي هذه اللحظة الحاسمة، يجب على صناع القرار في إسرائيل والعالم إعادة النظر في كل ما اعتقدوا أنه ثابت وحتمي، لأن المسار الحالي يقود إلى المزيد من الانقسام والدمار، ليس فقط في غزة، بل في قلب الدولة نفسها، حيث تشتد الإشارات نحو أزمة شرعية قد تبتلع الكيان بأكمله.
إن هذه الاحتجاجات العارمة ليست مجرد رفض لخطة احتلال، بل هي رفض لاستمرار سياسة فشلت في بناء مستقبل إسرائيل، وتغذّي دوّامة لا تنتهي من العنف والانتقام. هنا تكمن الخطورة الكبرى، في أن يتحول الداخل الإسرائيلي إلى ساحة معركة جديدة، حيث تتصارع النخب على رماد الهوية الجماعية، وتصبح الدولة أسيرة انقساماتها، فيما العالم يراقب بصمت، ينتظر انفجارًا ربما لا مهرب منه. وفي هذا السياق، لم تعد المسألة خيارًا سياسيًا فحسب، بل مسألة وجود، ومصير لا يحتمل التأجيل أو المراوحة.