"نقوش على خشب الصليب".. رواية عن قيامة الفنّ في وجه الخذلان

إسماعيل الرفاعي يكتب ملحمته الجديدة من ذاكرة ضفاف الفرات.
الثلاثاء 2025/09/02
صورة كبرى للإنسان المصلوب

تتكامل عوالم الكاتب والرسام السوري إسماعيل الرفاعي بين الأدب (شعرا وسردا) والفن التشكيلي، ورهانه واحد هو الإنسان، الذي يبحث الرفاعي في ظلامه عن النور وفي عذاباته عن طريق للخلاص، وها هو يواصل مشروعه المركب الصعب في رواية ملحمية جديدة عنونها بـ"نقوش على خشب الصليب".

لندن - تضع رواية “نقوش على خشب الصليب” للكاتب والفنان السوري إسماعيل الرفاعي القارئ منذ العتبة الأولى أمام مجاز كثيف ومركَّب، حيث يتحوّل الخشب إلى حامل للصلب، والنقش إلى كتابة فوق الألم، واللوحة إلى مرآة للروح.

الرواية تقدَّم على هيئة “فهرس نقوش”، في إشارات تشي بأن الفصول التي تحويها ليست فصولاً تقليدية متسلسلة، وإنّما لوحات سردية أو مقاطع متجاورة، لكلّ منها استقلالها الرمزيّ، لكنها تشترك في تشكيل صورة كبرى للإنسان المصلوب على تخوم المكان والزمان. عناوين مثل: غبش مجيد، مثلث الألم، سرّة الكون، العشاء الأخير، تفتح الباب على تقاطع الأسطورة بالذاكرة الشعبية، واللاهوت بالفنّ التشكيلي، والخراب السياسي بالانهيار الداخلي.

نزعة وجودية

في صميم الرواية، الصادرة حديثاً عن منشورات رامينا في لندن، يقف الرسام إبراهيم، رجل يسعى إلى القبض على جوهر الوجود عبر ألوانه وخطوطه، لكن اللوحة التي يعمل عليها تنقلب فجأة إلى صليب، ويتحوّل فضاء المرسم إلى مشهد جلجلة. يرى المسيح بجسده المثقوب، ووجهه الملطخ بالدم، ومدامعه التي تنهمر، فيختلط الرسم بالبوح، واللون بالعرق، والعرق بالدم. هذه الرؤيا، التي تأتيه بين سكر العرق وحُمّى العزلة، تكشف عن جوهر الرواية: الإنسان في مواجهة صلبه الخاص، وعذابه المتوارث، وصراخه المكتوم عبر الأجيال.

لكن الرواية لا تقف عند حدود المرسم وحده، تراها تعود بالقارئ إلى مدن الفرات، بمقاهيها الشعبية، وطقوس السّكارى والمغنين المتسكعين على ضفاف النهر، إلا أن هذا الفرات ليس صورة رومانسية لماء صافٍ، بقدر ما هو نهر مثقل بالغبار، مشبع بسموم النفط، محاصر بسدود قطعت شرايينه. يظهر في النص كخيط فضي يلمع في قلب الخراب، لكنه لا يقدر أن ينقذ مدنه من العواصف، أسراب الخنافس السوداء، أو لعنة الشركات التي استوطنت أرضه.

إسماعيل الرفاعي يكتب بعين رسام، واللغة عنده مشبعة باللون والملمس والضوء، كتابة بصرية بامتياز تتحرك بين الإيحاء والتجسيد
إسماعيل الرفاعي يكتب بعين رسام، واللغة عنده مشبعة باللون والملمس والضوء، كتابة بصرية بامتياز تتحرك بين الإيحاء والتجسيد

الرواية تحاور التاريخ عبر استعارة الحاضر، فالخنافس التي تغزو البيوت ليست كائنات عابرة فقط، إنّما هي شارة لعنة تهبط من السماء، مثل أحجار سجّيل تورّط الناس في ذنوب لم يقترفوها. العواصف الرملية ليست حالة مناخية، وإنما استعارة عن الخراب السياسي الذي اجتاح المدن والقرى. وحتى الأمكنة العادية – الجرادق، الجسور، الأزقة – تتحوّل إلى مسارح لمجاز القيامة.

إلى جانب الرسام إبراهيم يظهر كاسر، الموسيقي الذي يفتّش في غيتاره عن لحن ينقذ الحب المستحيل، وعن رواية يكتبها عن امرأة تدعى “ماري”. في غرفته الضيقة، حيث دخان السجائر يتكاثف فوق الأوراق، تولد رواية داخل الرواية، وتتشابك مع مسوّدات إبراهيم ولوحاته، وكأنّ النص كله يقوم على جدلية الفن بوصفه مرثية للحياة ومقاومة للمحو.

ما يلفت في “نقوش على خشب الصليب” هو أن إسماعيل الرفاعي يكتب بعين رسام، واللغة عنده مشبعة باللون والملمس والضوء، يكتب كتابة بصرية بامتياز، تتحرك بين الإيحاء والتجسيد، بين الرؤية الغامضة والملموس الحسي.

تحمل الرواية نزعة وجودية مريرة، حيث الإنسان محكوم بعذاباته، يبحث عن يقين لا يصل إليه، ويعيش قياماته الصغرى في كلّ حمّى أو خسارة، وهي بذلك تلتحق بجيل من الأدب العربي الحديث الذي لا يخشى استدعاء المقدّس إلى ساحة السرد، ولا يتردد في تحويل الحياة اليومية إلى درب جلجلة يضع القارئ أمام صليبه الخاص.

الهشاشة والنور

لوحة

“نقوش على خشب الصليب” نصّ يطالب قارئه بأن يتورّط فيه، أن يقرأ بوعي العين المرهقة والروح المصلوبة، وأن يخرج مثخناً بالأسئلة عن الفن، عن الخلاص، عن الخراب، وعن معنى أن يُعاد صلب الإنسان في كل جيل من جديد.

يقول الناشر عن رواية الرفاعي إنها “تستنطق ألواحاً غارقة في الظلال، وتمنح الخيالَ سلطة الانبعاث من الرماد، حيث ارتجاجات الجمر تحت رماد المدينة. إبراهيم الرسّام، الذي يرسم من هذيانه، ومن خمرةٍ لم تكن للهروب بقدر ما كانت مدخلاً لليقين، يرى المسيح ينزل عن صليبه، ويمدّ إليه خرقة الدم، كأنّ الفنّ لم يعد احتمالاً جماليّاً، إنّما استدعاء لما لا يمكن ردّه: للألم بوصفه مكاشفة، للخراب بوصفه عماداً.”

ويضيف “هذه الرواية ليست حكاية عن القيامة بالمفهوم اللاهوتيّ، إنّما عن قيامة الفنّ في وجه الخذلان، وقيامة الجسد حين يخونه الجمال، وقيامة الكلمات حين تفشل الحقيقة. وهي رواية مشبعة برائحة الفرات، بحنين المدن التي تهجر أبناءها، لا لأنّهم خانوها، لكن لأنّهم تجرّؤوا على حفر أسمائهم في خشبها المسنّن.”

ويؤكد أن الروائيّ هنا يقيم في برزخ اللغة، هناك حيث لا فرق بين الحلم والهذيان، بين الصحو والعزاء، بين الفقد والخلق. والكاتب يضعنا أمام امتحان عسير: كيف نصدّق اللوحة؟ كيف نقرأ الطين حين يُنقش عليه وجه المسيح؟ وكيف نستعيد طفولتنا من بين شقوق الخشب المتفسّخ؟

الرواية لا تنبني في فصول تقليدية متسلسلة، إنّما لوحات سردية أو مقاطع متجاورة لكلّ منها استقلالها الرمزيّ

ويتابع “هنا، تتداخل المصائر كما تتداخل الألوان، وتختفي الحدود بين الرسّام والصليب، بين ماري ويسوع، بين الخمر والدم، بين المدينة والجثة.. كأنّ كلّ شيءٍ في هذه الرواية مكتوب بخطّ مسماريّ على جسد معذّب، ينتظر من يقرؤه على مهله، كما تُقرأ الوصايا على لوحة حجريّة مدهشة.”

ويواصل “يكتب إسماعيل الرفاعي رواية عن هشاشتنا أمام الألم، وعن ذلك النّور البعيد الذي يشعّ من صليب لا نعلم بعد، أكنّا نحن من صنعناه أم صلبنا عليه من دون أن ندري. في زمن تحوّلتْ فيه المدن إلى أطلال، والمقدّسات إلى رماد، تبقى الكتابة النّقْش الأخير في الخشب، لعلّها تنقذ ما تبقّى من الروح.”

ويصف الرواية بأنها عمل أدبيّ فريد، كُتب بفرشاةٍ تمتحن الألوان، وبقلب يرى في العتمة خلاصاً، ويؤمن أنّ بعض القيامة قد يحدث في العزلة، في لوحة لم تكتمل، في كأسٍ منسكبة لروح غادرت ولم تقل وداعاً.

وجدير بالذكر أن إسماعيل الرفاعي فنان تشكيلي وشاعر وروائي من مواليد سوريا 1967، يشغل حالياً منصب استشاري التحرير والمحتوى العربي في مؤسسة الشارقة للفنون، وهو حاصل على بكالوريوس فنون جميلة، جامعة دمشق. عرضت أعماله على نطاق واسع على الصعيدين المحلي والدولي، وأقام العديد من المعارض الفردية، كما شارك في العديد من المعارض والبيناليهات والتظاهرات الدولية، وحاز العديد من الجوائز الفنية والأدبية.

وله العديد من الإصدارات الأدبية والنقدية ومنها: “وعدٌ على شفة مغلقة”، شعر (2002)، “أدراج الطين”، رواية (2006)، “لقاء مارس، مقاربة نقدية” (2008)، “عند منعطف النهر”، نصوص شعرية ورسومات 2021، “سرد المكان، مقاربة نقدية لمشروع الشارقة الثقافي” (2022).

12